عند مرفأ الذكريات

على حافة المرفأ القديم وقف كعادته دوما , كأنه محكوم ينفذ عقوبته في نفس اللحظات وعند نفس الموقف. تماما عندما يفتر لون الشمس ويصبح أبيضا ثلجيا لترتاح معها جميع الكائنات وتتلون معها الأشجار والورود بتحية ود صادقة و تقبل الأفق والسحاب تاركة أثر شفاهها ورديا ناعما.وعندما ترخي قبضة الخريف نسيمها البارد بعد خداع نهار طويل ..

وقف متجاهلا الصمت من حوله ويداه مختفيتان في جيبه, يتماسك في وقفته , ضاغطا قبضته اليمنى كمن يخاف أن يُسرق شيء من كفه , خاف أن يجذبها البحر للوجود لتشهد وتكذب اللوم الذي ألقاه عليه يوما .. لتشهد أنها قد قبضت يوما على يد الحبيبة وكانت جزءا للحظات من تلك الروح الهائمة مع النسيم وذلك الجدار الصغير الذي يعبق بملح السنوات المترسبة على شقوقه الغائرة في عمق الحياة , يسرح تحته البحر في خيلاء غير عابئ بالزيف الذي يجاوره وبالصخب الذي يقابله ..
تذكر أنه كان يوما طائرا .. فيما بقي ينظر بتيه إلى الأفق , إلى البعد والغروب إحدى الأوقات المقدسة في عمره السابق, تذكر يوم كان اثنين : قلبا وروحا , فيما أصبح الآن مجرد قلب مجروح , مجنون تائه بين اللحظات المتناثرة في فراغ الدنيا فقد المعاني وفقد قيمتها : الزمن .. الحياة .. البسمة . في الحقيقة لم تتلامس الأيدي إلا ثواني قليلة في لحظة لقاء سريعة لم تتوقف القلوب فيها حتى للتحقق جيدا من الواقف أمامها لكن اثر العيون ملأ الأرواح .

هو و هي مجموعة لحظات مجنونة بأقنعة بشرية غريبة, تتصارع مع الأيام ومع مفاهيمها المصطنعة , هما أكبر القصص التي يزخر هذا الزمان كما يمكن قول نفس الشيء بالنسبة للمكان فقد تعرفها هنا وفارقها هنا , خوفا من الحب لا خوفا من العيون المختبئة تحت الحجارة التي تصد أمواج البحر الهائجة . هو تفكير دوما تبكيه القلوب لاحقا وتكتبه الحروف نصائحا ..

- لم أوفق في الوصول إليها إلا بعد مدة , وبقينا بعدها على نفس الشكل نتراسل فقط بالحروف , تكتب لي واكتب عليها , تحكي لي أيامها وأحكي حبي لها , دامت الحكاية طويلا ولم تتبدل الكلمات أبدا من جهتها لذا لم أتشجع لكتابة قلبي بكلمة احبك رغم أنها مجرد كتابة فقط إلا أنها ستلاحظ حتما حرص قلبي على جمال حروفها و استقامتها ..

انتبه من تفكيره ذاك على صوت خافت قريب , كان رتيبا غريبا عن مسامعه , لم يستطع تمييزه رغم انه قد مر بنظره على كل زوايا المكان بسرعة . اقترب قليلا من مصدر الصوت, نظر للأسفل فوجد زجاجة في البحر عند حدود المرفأ , تصطدم بالحاجز الإسمنتي الصغير دفعا من الأموات الخافتة الرتيبة , زجاجة تتحرك مع تجاعيد البحر الخفيفة وتصطدم وتعود للوراء كل مرة . بدت عادية في البداية لكنه لاحظ شيئا داكنا وسط البياض اللامع ذاك ... وكأنها ورقة !! فانحنى عليها والتقطها ممسكا إياها من فتحتها . قلبها لتسقط تلك الورقة الغريبة واستفهام ممزوج بسخرية تحومان على محياه وبدأ بقراءتها:

<< حلم القلوب ..قلب ودود , حلم القلوب ..لحظات جميلة تدوم .. دوم الوجود, حلم القلوب ..أن أراك حبيبي, حلم لحظتي هو أن رسالتي هذه في زجاجتها ..ستصبح أسطورة رغما عن القلوب التي كذبتها . كذبوا الصدفة وكيف أنها قد جمعت ألاف القلوب , كذبوا البحر وهو من يجاهد لربط الأرواح وإيصالها لبر الأيام . أما أنا فقصتي مختلفة تماما أيها البحر .. حروفي ليست كتلك , همساتي اعتراف بقصة من الماضي , قصة مر عليها الزمن دون أن يختمها ..قصتي حروف ..كتبتها اعترافا للغريب .. لك يا بحر, للنسيم , كتبتها لكل من يسمع إشاعة ويصدقها , كتبتها لمسح سحابة شر طافت على اسمي وزمني رغم أنه لا أحد يعرفني ولا أحد سمع بي ..إلا هو !! .

ياااه ما أحلاه من ضمير وما أجمله من شعور يرافق حضوره ذاكرتي , ما أجملها من همسات تحملها كلماته دوما , وما أجملها ثقة بالحب تحملها نظراته. أستغرب دوما كيف لمن لم يعش الحب لحظة أن يعظمه كل تلك العظمة , كيف لمن لم يتنهد عاشقا ولا مرة ..أن تسايره حروف العشق كما كانت تراقص شفاهه الباسمة دائما .

يحق لي أن أبتسم الآن مع الذكرى كما يحق لي الدفاع وتأسيس قضية ضد اتهامي ..
جاء يوم من أيام الدنيا بكل ما تملك في العادة من زخم وزحام , مر ذلك اليوم وقد كُتبت قائمة معذبي ذاك التاريخ , وكان من بينهم ملك قلبي . يوم أصيب في عمله كعامل بناء , يوم سقط من ذاك العلو الشاهق , يومٌ تمنيت أنني لم أستيقظ فيه ..تمنيت والمنى عدو الواقع . جاءت المصيبة فلبسنا ثوب الترقب والرضا هو في منزله هناك بين عائلته وأنا هنا بعيد في زاوية غرفتي .. طالت مراحل حبنا في البداية وطالت معها مرحلة النظرات حتى قرأت كل تاريخ من تواريخه فقط من تلك النظرات, عرفته بروحه ...بشغفه .. بجنونه .. وبضحكته . عرفته ولم أعترف أنني أراه في الوجود, تجاهلته دوما. قطعت كل السبل والجسور أمام استفهاماته وأمام أسئلة عيونه الدائمة ..حتى لم استطع إلى ذلك سبيلا ..رغم أن حكايتنا قد بدأت قبلا إلا أنها جاشت من وقتها حتى ذلك اليوم , أما ذكريات حبي فهي سر سيضيع معي ..

جاءني الحكم يوما وأنا مشغولة بانتظاري , جاءني الملك رغم جراحه التي تسابق دموعه في السيلان وغضب الشوق يعاتبني على لسانه . ضاعت مني الكلمات لحظتها ونسيت أن أقول أنني نسيت النوم والحياة منذ غيابك يا حبيبي , لكني تسمرت أمام غضبه وقد ألم بي الندم والأسى أنني لم أبح له بذلك قبلها .. كما ندمت أني لم أقل لحظتها .. بأنني يا حبيبي صاحبة كلمات عاجزة .. ولو كانت معي روح الشعراء لعجزت أن تكتب حبي ..لكنني وكعادتي أنسى الكلام ويهرب مني ويسقط حبي دموعا في الظلام برفقة الذكريات .

هذه حكايتي ولك الحكم بعدها يا سيدي الغريب واعلم أنني في منفاي هذا لأحوج الناس إلى نسيم دافئ يسكت جراحي قليلا . لم ألعن الحب واللحظات .. ولم أشتكي أبدا .. لكنني اليوم وبعد أن يئست أن يفتر شوقي إلى روحه كتبت هذه الرسالة لأبرر لنفسي ابتسامتي عند مرور طيفه أمامي ..
فالحكم لك أيها الغريب في النهاية وادعوا الله العظيم أن يرحم روحا معذبة في الزحام الفارغ وليغفر لها يأسها ومرارتها من الوجود ..

المكان : أبعد من قلب حبيبي
التاريخ : ........... >>

عقدت لسانه الدهشة طويلا فبقي يتأمل الورقة وهو يتلمس جرحا قديما في كتفه..

- حقا .. لست مخطئا .. إنه خطُها .. كيف أنساه !! إنها رسالة منها .. أخر رسالة .. انتبه للتاريخ .. منذ شهرين .. اللعنة .. مازالت تتذكرني .. وما زالت ..وسبقته غصة أوقفت الكلمة في حلقه .. سحقا !! لم يسمعها من فمها لكنه قرأها من روحها .. أجل لقد كانت – وازدادت معه الدموع وغطت على فرحته- ..لم يكملها ..لم يستطع إخراجها ..نظر للبحر ..و بكاها أمام الورقة : أني أحبك يا أميرتي .. فسقطت الزجاجة فرحا إلى الأرض فانكسرت .. وانكسر الزجاج الذي حال بينهما إلى الأبد ..

قصة .... بقلمي

كم سعدت بقراءت ما خطته يداك وسطره قلمك المعطاء

خيالك واسع ينبأ بمستقبل واعد أهنئك من القلب ودمت

[align=center]دخلت هنا قارئة
فالله در بما تمنحه إيانا أكـالـيـل در وتـيـجـانها تـبـر
ترجمة وصقل الأحاسيس حين يتقـنـها خبيرها
تتوجه نجماً وكوكبا
إكليل نرجس لروحك [/align]