العودة   منتديات زهرة الشرق > >{}{ منتديات الزهرة الثقافية }{}< > شخصيات وحكايات

شخصيات وحكايات حكايات عربية - قصص واقعية - قصص قصيرة - روايات - أعلام عبر التاريخ - شخصيات إسلامية - قراءات من التاريخ - اقتباسات كتب

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 01-09-09, 03:41 PM   #16
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: سطور دافئة بقلم الكاتبة مي زيادة


[align=center]
ماقبـــــــــــــــــــــله


مي .. ومصطفى صادق الرافعي


عاش الكاتب الكبير مصطفى صادق الرافعي قصة حب كبيرة مع مي زيادة .. لكنها كانت قصة حب من طرف واحد هو مصطفى الرافعي !

فقد احترق الرافعي حباً وهياماً بمي وتوهم أن مياً تحبه وهو مالم يكن صحيحاً.

ولكن هذا الحب الكبير أنتج كذلك أدباً غزيراً وجميلاً . فكتب الرافعي لـ مي مجموعة كبيرة من الرسائل تشكل وثائق أدبية وشخصية هامة حول حياة كل منهما .

ورغم أن الرافعي كان يفهم شخصية مي جيداً وقال ذات يوم في وصفها :

إن كل من حادثها ظن أنها تحبه , وما بها إلا أنها تفتنه.

وكانت مي تراسل الرافعي كما كانت تفعل مع معظم أدباء صالونها المقربين . ولكن رسالة من رسائلها كانت توحي بشيء خاص بينهما قالت فيها :

أتذكر إذ التقينا وليس بنا شابكة , فجلسنا مع الجالسين , لم نقل شيئاً في أساليب الحديث , غير أننا قلنا ما شئنا بالإسلوب الخاص باثنين فيما بين قلبيهما ! وشعرنا أول اللقاء بما لا يكون مثله إلا في التلاقي بعد فراق طويل , كأن في كلينا قلباً ينتظر قلباً من زمن بعيد .. ولم تكد العين تكتحل بالعين حتى أخذت كلتاهما أسحلتها . وقلت لي بعينيك .. أنا .. وقلت لك بعيني : وأنا .. وتكاشفنا بأن تكاتمنا وتعارفنا بأحزاننا , كأن كلينا شكوى تهم تهم أن تفيض ببثها .. وجذبتني سحنتك الفكرية النبيلة التي تصنع الحزن في نفس من يراها .. فإذا هو إعجاب , فإذا هو إكبار , فإذا هو حب .

وهذه الرسالة شكك بعض النقاد في أن مي زيادة أرسلتها فعلاً إلى الرافعي .. بل قالوا إنه هو الذي تلبس أسلوب مي وكتب الرسالة إلى نفسه !!

وعن مي كتب الرافعي ثلاثة كتب من أروع ما كتب هي : " رسائل الأحزان " .. " أوراق الورد " .. و " السحاب الأحمر " .

وكان يعيش الرافعي – الذي يكبر مي بأكثر من ثلاثين عاماً – في طنطا مع زوجته وأولاده العشرة . وكان يحضر صالون الثلاثاء الأسبوعي في بيت مي قبل الجميع , وهو في كامل أناقته , وكانت مي تستقبله بحفاوة واحترام , وتوليه عناية خاصة , ولكن رغم كل ذلك .. لم يكن هو الحبيب الذي ملك قلبها.


مي .. وإسماعيل صبري


كان شيخ الشعراء إسماعيل صبري من أكثر رواد صالون مي حرصاً على حضور كل أمسياته .. وفي إحدى هذه الأمسيات مرض , ولم يستطع الحضور .. فإذا به ينظم أبياتاً تدل على حب وتتيم بمي .. وبكم إحساسه بالندم والحزن لأنه سيخسر ليلة من لياليها التي تروي روحه وتمتع نظره وتشبع فكره ووجدانه .. فيقول الشاعر إسماعيل صبري :


روحي على بعض دور الحي حائمة *** كظامئ الطير حواماً على الماء
إن لم أمتع بمي ناظري غداً *** أنكرت صبحك يا يوم الثلاثاء


وهذه قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقي يصف فيها أيضاً افتتانه بمي كأديبة وكامرأة:


أسائل خاطري عما سباني *** أحسن الخلق أم حسن البيان ؟
رأيت تنافس الحسنين فيها *** كأنهما لمية عاشقان
إذا نطقت صبا عقلي إليها *** وإن بسمت إليَّ صبا جناني
أم أن شبابها راث لشيبي *** وما أوهى زماني من كياني



***


أحبوها جميعاً .. كل بطريقته وأسلوبه .. أحبوا الشعاع المشرق .. الشمس التي يغمر نورها الجميع .. لكنها كانت تملك داخلها قمر معتم .. يملؤه الفراغ والغربة .. والبحث عن الحب الحقيقي .. الذي تمنت أن تجده ...
[/align]


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-09-09, 03:42 PM   #17
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: سطور دافئة بقلم الكاتبة مي زيادة


[align=center]الفصل الخامس

مي .. التي لم ينصفها الرجال !


لم ينصف مي كاتب أو أديب من رجال عصرها ! هذه حقيقة بكل أسف فرغم التتيم والانبهار الذي سيطر عليهم جميعاً بشخصية مي وثقافتها الفريدة .. وروحها الشفافة . إلا أنهم جميعاً رأوها من الخارج .. لم ينفذ أحدهم إلى أعماقها ليقرؤها جيداً .. ويفهمها . ربما لو فعل أحدهم ذلك لأحبها أكثر ..

وهذه كانت بداية المحنة الكبيرة التي عاشتها مي في الفصل الأخير من حياتها المعذبة . محنة أن يشعر إنسان معجون بالإحساس بزيف المشاعر أو سطحيتها . إنه شعور يلسع الروح , ويوجع القلب المرهف .

ربما فهمتها أكثر أديبات جيلها والأجيال التي تلتها .. ربما كان هناك خيطاً مشتركاً من الألم الشخصي جمع بينها وبين بنات جنسها ممن احترفن الكتابة , وعشقن القلم والأدب .. ربما كان الوجع واحداً رغم اختلاف الظروف والشخصيات .. المكان والزمان . لذلك حللت الكثيرات من الاديبات والكاتبات الوجع الحقيقي الذي عاشته مي .. وتشابهت رؤية كل منهن في الكثير من الجوانب .

فقالت عنها الدكتورة عائشة عبد الرحمن .. المعروفة بـ " بنت الشاطئ ":

أنا ما عرفت مي هذه التي يعرفها الناس ويتحدثون عنها . لكني عرفت مي الإنسانة الشهيدة !

فليحدثكم سواي عن عبقريتها ونبوغها وفجيعة الأدب فيها .. أما أنا فأحدثكم عن مي الفتاة الإنسانة التي عاشت وأحبت وتعذبت وكابدت .. ثم قضت فاستراحت .

غيري يسكب الدمع لموت مي . وأنا أسكب الدمع على حياة مي , وما حياتها إلا قصة استشهاد طويل !

إن أكثرهم قد رآها في هالة من أضواء الشهرة , يتوجها إكليل من المجد وتضج حولها صيحات الهتاف , فهل منكم من غالب الأضواء فرأى في إهاب الكاتبة الشهيرة , الإنسانة التي تتألم وتتوجع وتتلوى والناس من حولها يهتفون لها !!؟

لقد ضاعت إنسانية مي وتجوهلت , وفنيت في غمار الشهرة وهي حية , فهل نضيعها وهي ميتة ؟

كلا ! إنني أكشف اليوم عن جراحها , وأفضى عنها ثوب الكاتبة , لتشهدوا الإنسانة المتألمة الشاكية الضالة المحبة المحرومة !

وبدأت " بنت الشاطئ" تحكي قصة مي :

لقد جاءت إلى هذا العالم طلعة , فيها من التطلع فوق ما في الناس تلفتت واستشرفت , وسارت وتقدمت ... ومضت كالشعلة تضرب بالأرض فتتلهب ! رأت أفواج الناس يندفعون في سباق مجنون . إلى الشهرة , والمجد , والمال .. ولمحت في عيونهم بريق الرغبة والظمأ . فاندفعت في موكبهم , ووثبت إلى الطليعة , ووقفت في آخر الشوط تلهث . فرأت الهرة التي جن بها الناس ملء يديها . ورأت المال الذي فتن الناس ملء راحتيها .. ولكنها افتقدت سعادتها في هذا كله فآبت بالخيبة والفشل ! والناس من حولها يهتفون لها !

ربحت السباق . ولكن نفسها تيقظت تسألها أين سعادتها ؟! ويالهول هذه اليقظة في إنسانة ذكية الفؤاد .. كبيرة القلب , ملتهبة الحس !

لقد عبرت مي عن مأساتها في سطور من كتابها : " ظلمات وأشعة " فقالت :
وقفت عند كوة الحياة , وإذا بالناس يمرون .. ثم أوحى إلى بأن هناك وجوداً غير ملموس يدعى السعادة , وشعرت بإحتياج محرق إلى التمتع بها , ولما انتهى دور الوقوف في الكوة , وجدتني بين الجماهير ووجهتي مرقص الحياة جاهلة من ذا يسيرني .. فتناولني حيناً دوار الاختلاط بالجمع الكبير .. ولم يفتأ ذلك الوحي المعذب يهمس في سورته , وذلك الاحتياج المتوهج يضرم فيَّ ناره , ففهمت أمراً آخر وهو أنه حيث تكون العاطفة متيقظة مرهفة , فهناك النزاع الأليم والاستشهاد .. وإذا رافقتها الأنفة وشرف السكوت على مضض الحروق والكروب , فهناك مأساة تتجدد مع الأيام .

كان الناس يظنونها سعيدة وهي في قمة المجد والشهرة بينما هي تناجي نفسها وحيدة تقول :

أي شمس تغيب فيك أيتها الفتاة , ولماذا يشجيك المساء لتغشى عينيك هذه الكآبة الربداء ؟ لقد انتعشت جميع الأشياء , أما أنت فتلوبين جائعة عطشى , وراء الملل والسآمة وهيج فيك واحتدام !

إخبريني ما بك .. لماذا أراك ترقبين ما ليس بالموجود وتشتاقين ما ليس بالبادي ؟ وإذا تحولت عنك إلى مرآتي , رأيت هناك وجهك مفجعاً حزيناً

جميع الأشياء انتعشت , وأنت .. أي علة تضنيك فتلوبين وتتأوهين ؟


***


هكذا عاشت مي تفتش في الحياة عما لا تجد , وتنادي من لا يجيب . كانت تفتقد سعادة الإنسانة الطبيعية ومشاعر الأنثى . وتصرخ في أخريات سنوات حياتها ..

أنت أيها الغريب ! سأفزع إلى رحمتك عند إخفاق الأماني .. وأبثك شكوى أحزاني , أنا التي تراني طيارة طروباً .. وأحصي لك الأثقال التي قوست كتفي وحنت رأسي منذ فجر أيامي , أنا التي أسير محفوفة بجناحين متوجة بإكليل !

وسأطلعك على ضعفي واحتياجي إلى المعونة , أنا الني تتخيل فيّ قوة الأبطال ومناعة الصناديد !

هذه صلاة الإنسانة المشردة المتعبة , رفعتها إلى الغريب , ولكن الغريب لم يلب النداء ! ومضت المسكينة تكابد وتتجلد وتموت !

مي مزقها الظمأ والبرد والحرمان .. فتألمت .. وتعبت .. ثم صرخت !

وقالت عن نفسها : أنا لغز حي تائه , تلبد جو فكري بالغيوم وقلبي منفرد حزين ... أراني في وطني , تلك الشريدة الطريدة التي لا وطن لها ! أنا وحدي , وحدي في الدنيا , تلك التي لا وطن لها !

صرخت مي لكن صرخاتها تاهت وسط صيحات الهتاف بمجدها .. وتألمت .. لكن أوجاعها ذابت في شعاع الشهرة .

يتبــــــــــــــــع [/align]


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-09-09, 03:43 PM   #18
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: سطور دافئة بقلم الكاتبة مي زيادة


[align=center]لم ير الناس على رأسها إلا عظمة المجد بينما هي تنزف دموع قلبها من الداخل .. وتقول في سطورها :

جاء المساء مرة أخرى .. جاء المساء وتبعه الليل . وعيناك قرب السراج جامدتان جمود من يتأمل جثة , فأشعر بأن شيئاً فيك أمسى جثة !

ونجد كاتبة أخرى هي غادة السمان تبدي وجهة نظرها في أسباب مأساة مي فتقول :

أرى في ( أيام العز ) التي عاشتها في منتداها بداية لمأساتها وآلامها وجحيماً من نوع خاص لا تقل عزلتها الروحية داخله عما عرفته في المستشفى العقلي الذي تم زجها فيه .

فالزحام المتملق حضور موحش , ومي كامرأة ذكية ومرهفة كانت بالتأكيد تعي وخز الاستهانة بإبداعها ككاتبة , ومعظم الذين حولها يمطرونها بزبد الإعجاب الملتبس بشخصها الناعم قبل إبداعها . وهو إعجاب متنصل منها إبداعياً , ويتجلى ذلك التنصل المتملص في لحظات الصدق النقدية المكتوبة لا المدائح الشفهية المجانية .

نجد مثلاً عباس محمود العقاد يقول عنها :

صيرت مي الدنيا كلها غرفة استقبال لا يصادف فيها الحسن ما يصدمه ويزعجه , أو هي صورتها متحفاً منضوداً لا تخلو زاوية من زواياه من لباقة الفن وجودة الصنعة .

أما حين يضطر للإجابة عن سؤال حول أدب مي فنجده يقول :

اقرأ كتابة مي لا تجد فيها ما يغضبك . (!) ليكن لك رأيك في أسلوب الكتابة أو نمط التفكير أو صيغة التعبير فما من كاتب إلا وللناس في أسلوبه وتفكيره وصيغ تعبيره آراء لا تتفق . أما الإنسان في مي ذلك الكائن الشاعر الكامن وراء الكاتب منها والمفكر والمعبر فلا يسع الآراء المتفرقة إلا أن تتفق فيه وتصافحه مصافحة السلام والكرامة.

وهكذا نرى كيف يهرب العقاد من إبداء نقد صريح ورأي واضح في مي الأديبة والكاتبة ويخفى ذلك وراء امتداح لطفها وإنسانيتها !!

وتقول غادة السمان :

ولعل مي زيادة المتوجة على عرش صالونها الأدبي وعت تدريجياً وبكثير من المرارة أنه لا شيء أسوأ من العداوة إلا الود المزور والمحبة الحمقاء والعواطف الخرقاء .

وقد عانت مي منذ بداياتها من الخلط بين جمال الكاتبة وجمال إنتاجها الأدبي والفكري . بين حضورها الأنثوي وقدراتها الإبداعية التي لا علاقة لها بالتأنيث أو التذكير .

ولم يقتصر ذلك على حياتها فحسب .. بل امتد _ للأسف _ بعد وفاتها المأساوية فقد صدرت العديد من الكتب تحمل روايات وقصص عن عشاق مي .

وترد الكاتبة إيلين عبود في مجلة دنيا المرأة في عام 64 على هؤلاء فتقول :
لو أن أدباءنا أعزهم الله , تحولوا عن البحث بما يتعلق بعشاق مي إلى البحث في تراثها الأدبي على ضوء الحقبة التي عاشت فيها لأسدوا إلى روحها جميلاً , وأسدوا فضلها إلى الناشئة من فتيات وفتيان جلهم يجهلها أديبة عربية لها مؤلفاتها القيمة وخواطرها الرائعة .

وترى غادة السمان : إن العزلة الداخلية المروعة لـمي جعلتها تهرب من المناخ الروحي الخانق للمعجبين بقشرتها إلى عالم حقيقي خيالي في آن معاً . فأحبت رجلاً من وهم وضباب ومسافات اسمه : جبران خليل جبران , وتعلقت به عبر القارات دون أن تراه ولو لمرة واحدة , ربما هرباً من كل ما تعرفه إلى ما تجهله , ومن زحام يحيط بها , يسكبها في قالب الملهمة الموحية والأنثى اللطيفة . ناسياً أنها ليست دمية وأنها بدورها تبحث عن ملهم روحي وإنسان .

وفي معظم مدائح بعض رواد صالونها يتجلى التخلي عنها كفنان ند .. تحت ستار تمجيد أنوثتها وجمالها وحضورها الآسر .

تلك كلها مشاعر موجعة .. آلمت مي وأوجعتها وكانت بداية النهاية لإسطورتها الحزينة . تلك الهوة بينها وبين الحب الحقيقي التي لم يملأها أحد .. فسقطت هي نفسها فيها مع موت أحبابها تباعاً .. والدها .. والدتها .. ثم جبران . وغدر الأهل وطمعهم في المال والورث .. ثم المؤامرات الأخيرة التي فتكت بها تماماً .. وقضت على البقية الباقية منها .

لقد لقبوها بـ " عروس الأدب النسائي " .. فهل لقب أحد أدباء عصرها اللامعين بـ " عريس الأدب الرجالي "؟! إن هذا السؤال والإجابة عنه يلخص معاناة مي الحقيقية . فقد حالت أنوثتها بينها وبين النقاد والكتاب من زوار ندوتها .. ووقفت هذه الأنوثة بينها وبين إبداعها الفكري وإنتاجها الأدبي .

فرجال عصرها انشغلوا بها كظاهرة نسائية فريدة لم يكن في ذلك العصر مثيلاً أو حتى شبيهاً لها . فكل الذين كتبوا عنها لم ينسوا أنها امرأة , فحللوها من هذا المنطلق دون حرج ناظرين إلى أنوثتها على حساب فكرها . فكتبوا عنها كلاماً لا يتصور أحد أن يكتب مثله لو كان عن رجل !

ويقول الدكتور جوزيف زيدان أستاذ الأدب العربي بجامعة ولاية أوهايو في الولايات المتحدة الامريكية .. ومؤلف كتاب " الأعمال المجهولة لمي زيادة ":
على الرغم من إطلاق شتى الأوصاف الرفيعة عليها مثل " الأديبة النايغة " و " فريدة العصر " و " ملكة دولة الإلهام " و " حلية الزمان " و " الدرة اليتيمة " بقيت مي في نظر المؤسسة الأدبية الرجالية امرأة حتى أطراف أصابعها يصح أن تعامل وتقدم كأية امرأة .

يصفها – مثلاً- صديقها أسعد حسني قائلاً :

وكانت مي على رغم سعة اطلاعها وعظيم استنارتها أبعد النساء عن " الاسترجال " وأشدهن استمساكاً بالخصائص النسوية .. بقامتها الربعة ووجها المستدير , وهي زجَّاء الحاجبين , دعجاء العينين , يتألق الذكاء في بريقها , وشعرها الطويل يجلل صفحة جبينها .

أما سلامة موسى فيقرر : لم تكن مي جميلة ولكنها كانت حلوة !!

ويصف فتحي رضوان لقاءه الأول بمي عندما ذهب إلى بيتها فيقول :

حينما دققت الجرس فتحت لي الآنسة مي بنفسها , فلاحظت لأول وهلة أن لها عينين ضيقتين تبدوان للنظار كأن بهما أثراً من رق قديم , فليس فيهما شيء من الجمال . أما مي نفسها فممتلئة غير مترهلة , وأظنها أقرب إلى القصر من الطول .

ولم يقف فتحي رضوان عند وصف شكلها وجسدها بشكل تفصيلي .. بل وصف صوتها أيضاً .. فقال :

وصوت مي تشوبه رنه حزن لا أدري إذا كانت طبيعية أم مصطنعة , وهي تقطع عباراتها , وكأنها تلحنها وتوقعها كأغنية (!!) .

حتى نساء عصرها تحدثوا عن مي كامرأة فقالت عنها السيدة هدى شعراوي :

لم تكن مي على وسامتها ووضاحة وجهها جميلة بالمعنى الصحيح للجمال ( !)

وهنا نتساءل : لماذا لم يصف أحد كاتباً رجلاً مثل هذه الأوصاف الجسدية والصوتية .. ولماذا وضعت هي تحت الميكروسكوب الرجالي .. والنسائي أيضاً ؟!.

الإجابة عن هذا السؤال جاءت على لسان الكاتب فتحي رضوان عندما قال :

مي كانت ظاهرة اجتماعية أكثر منها ظاهرة أدبية . فقد كانت مي آنسة لبنانية , تكتب العربية والفرنسية , وتقابل الرجال , وتتحدث إلى الأدباء وأهل الفكر , ويتحدثون إليها , وفيهم أكثر من أعزب عاش حياته بلا زوجة , وهم جميعاً بين متزوج وأعزب يضطربون في مجتمع لا تبدو فيه المرأة إلا كالطيف . وإذا أسفرت واحدة من النساء كانت كالمحجبة تماماً , لأنها لا تحسن حديثاً يشوق الرجل المثقف أو يمتعه , أو يثير خياله أو يوحي إليه أو يلهمه بفكرة أو عاطفة أو خاطره .

إلى هذا الحد ظلم الرجال عقل مي وفكرها وإبداعها .. وتجاهلوا إنتاجها الفكري الثري والفريد .. واكتفوا بمدحها كمحدثة جيدة .. ومثقفة ملهمة .. وشخصية محبوبة !!

لكن الإنصاف يأتي ولو بعد حين ....

لم يأت ممن عاصروها .. لكنه أتى من أجيال متعاقبة من أحفادها وحفيداتها ممن يؤمنون بالرسالة الأخلاقية لمهنة القلم . وربما أنصفها رجال من غير عصرها لأنهم لم يقعوا تحت تأثير جاذبيتها الإنسانية والأنثوية .. بل استحوذت عليهم جاذبية أخرى أعمق تأثيراً هي جاذبية العطاء الأدبي والفكري والإنساني .

فعكف الدكتور جوزيف توفيق زيدان على جمع الأعمال المجهولة لـ مي زيادة قبل أن تلتهمها يد الزمن والإهمال .

ويقول في مقدمة كتابه :

كان ذلك في ربيع عام 1990 . وكنت أتردد على دار الكتب بالقاهرة لإعداد بحث عن المسرح الشامي في مصر , عندما تيقنت أنني وقعت على كنوز مطمورة تحت الغبار آخذة بالتلف بسبب ظروف الصيانة المؤسفة للدوريات . وراعني أن من بين هذه الكنوز مقالات لـ مي ذات أهمية أدبية وتاريخية كبرى إذ أنها تلقي أضواء جديدة على تطور حياة مي الفكرية , وهي مقالات حول مواضيع شتى لم تجمع في كتاب كانت قد نشرتها في صحف يومية مثل " المحروسة" و " الاهرام" وفي مجلات مثل " الزهور" و " المقتطف" و " مجلة النهضة النسائية" و " مجلة المرأة العصرية" و " الهلال" و " الرسالة" .

ويروي د. جوزيف زيدان تجربته الصعبة في إنجاز هذه المهمة النبيلة فيقول :

وأكثر ما حز في قلبي أني وجدت أوراق بعض هذه الدوريات , وخاصة " المحروسة " و " الاهرام" قد أخذت تتآكل وتتفتت مهددة مقالات مي بالإضمحلال حرفياً . ومما زاد الطين بلة أن تجليد أعداد هاتين الجريدتين لم يتم أصلاً على الوجه الصحيح , ففي كثير من الأحيان نجد أن المجلد قد تعدى النهر الأول من الصفحة الأولى للجريدة فأخفاه أو أخفى جزءاً منه .

إن مشاعر الألم والحزن التي كانت تتملكني وقتها كلما اكتشفت أن النهر الأول من كثير من مقالات مي قد التهمته خيوط التجليد تحولت إلى تصميم عنيد على إنقاذ هذه الآثار . فعكفت على العمل في هذا المشروع حتى نهاية الصيف , مصوراً ما أمكن تصويره , وناسخاً باليد مالا تصله عدسة آلة التصوير أو ما لا يمكن نقله إلى قسم التصوير لأنه في حالة من التضعضع يرثى لها . وزاد شعوري بأني في سباق مع الوقت بعد أن اتضح لي أن قسماً كبيراً من هذه الدوريات غير متوفر في أية مكتبة في العالم ما عدا دار الكتب المصرية .

ولم يكن د.جوزيف توفيق زيدان هو الوحيد الذي بحث عن مي الكاتبة وآثارها الأدبية الفريدة.. بل صدرت العديد من الكتب لباحثات وباحثين .. وكاتبات وكتاب آخرين تبحث وتكشف الستار عن مي زيادة الكاتبة والأديبة وصاحبة أشهر صالون أدبي في القرن العشرين .. ومنها على سبيل المثال كتاب " المؤلفات الكاملة لمي زيادة " الذي صدر في جزأين وعكفت على جمعه وتحقيقه سلمى الكزبري ونشرته دار نوفل ببيروت . وكتاب طاهر الطناحي " أطياف من حياة مي" الذي صدر عن دار الهلال بمصر . وكتاب فاروق سعد " باقات من حياة مي" الذي نشر ببيروت . وكتاب محمد عبد الغني حسن " مي زيادة أديبة الشرق والعروبة" الذي صدر عن عالم الكتب بالقاهرة . وكتاب وداد السكاكيني " مي زيادة في حياتها وآثارها" الذي صدر عن دار المعارف بمصر وكتاب وديع فلسطين ” مي وصالونها الأدبي" وصدر في لبنان .وكتاب جميل جبر " مي في حياتها المضطربة" وصدر في لبنان. وكتاب عبد السلام هاشم حافظ " الرافعي ومي" وكتاب عبد اللطيف شرارة " مي زيادة " وصدر في لبنان . وكتاب كامل الشناوي " الذين أحبوا مي" وصدر في القاهرة . وكتاب منصور فهمي " مي زيادة ورائدات الأدب العربي الحديث " وصدر في القاهرة وكتاب أنطون القوال " نصوص خارج المجموعة.. مي زيادة" وصدر في لبنان وكتاب خالد محمد غازي " جنون امرأة" وصدر في مصر وكتاب د. ماجدة حمود " رواية الحب السماوي بين جبران خليل جبران.. ومي زيادة " وكتاب سميحة كريم " مي زيادة.. كاتبة عربية " وصدر في مصر وغيرها من الكتب التي تناولت حياة مي زيادة ككاتبة و إنسانة ومفكرة سبقت عصرها .. وأحرقتها الشهرة والغربة.

وأعتقد أن كل هؤلاء حاولوا إنصاف مي التي لم ينصفها معاصروها. ولعلها الآن راضية عنا .. وهي تطل بروحها الشفافة من العالم الآخر على هذه الكتيبة من النساء والرجال .. من كاتبات وكتاب لا يزالون يبحثون عنها .. ويقتفون آثارها رغم رحيلها منذ أكثر من نصف قرن في عام 1941 .

ولعل تلك المحاولات المخلصة في كشف أثرها في الفكر والأدب والثقافة العربية , وكذلك في تأكيد ريادتها كامرأة في تلك المجالات التي كانت حكراً على الرجال . لعل في هذا كله إنصافاً لك يا مي ..
وإرضاء لعقلك الفريد .. وروحك الملائكية .
__________________[/align]


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-09-09, 04:00 PM   #19
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: سطور دافئة بقلم الكاتبة مي زيادة


الفصل السابع


ليالي العصفورية !



الفصل الأخير في حياة مي كان حافلاً بالمواجع والمفاجآت ! بدأ بفقد الأحباب واحداً تلو الآخر .. والدها عام 1929 . جبران عام 1931 . ثم والدتها عام 1932 .

وعاشت مي صقيع الوحدة .. وبرودة هذا الفراغ الهائل الذي تركه لها من كانوا السند الحقيقي لها في الدنيا . وحاولت مي أن تسكب أحزانها على أوراقها وبين كتبها .. فلم يشفها ذلك من آلام الفقد الرهيب لكل أحبابها دفعة واحدة .

فسافرت في عام 1932 إلى انجلترا أملاً في أن تغيير المكان والجو الذي تعيش فيه ربما يخفف قليلاً من آلامها .. لكن حتى السفر لم يكن الدواء .. فقد عادت إلى مصر ثم سافرت مرة ثانية إلى إيطاليا لتتابع محاضرات في جامعة بروجية عن آثار اللغة الإيطالية .. ثم عادت إلى مصر .. وبعدها بقليل سافرت مرة أخرى إلى روما ثم عادت إلى مصر حيث استسلمت لأحزانها .. ورفعت الراية البيضاء لتعلن أنها في حالة نفسية صعبة .. وأنها في حاجة إلى من يقف جانبها ويسندها حتى تتماسك من جديد .

وجلست مي المليئة بالشفافية وحسن النية بالبشر تكتب إلى ابن عمها الدكتور جوزيف في لبنان وتخبره بحالتها ..

وقالت مي في خطابها للدكتور جوزيف :

عزيزي جوزيف ...

منذ مدة طويلة لم أعد أكتب . وكلما حاولت ذلك شعرت بشيء غريب يجمد حركة يدي ووثبة الفكر لدي .

إني أتعذب شديد العذاب يا جوزيف , ولا أدري السبب , فأنا أكثر من مريضة , وينبغي خلق تعبير جديد لتفسير ما أحسه فيّ وحولي . أني لم أتألم أبداً في حياتي كما أتألم اليوم , ولم أقرأ في كتاب من الكتب أن في طاقة بشري أن يتحمل ما أتحمله . وددت لو علمت السبب على الأقل . ولكنني لم أسأل أحداً إلا وكان جوابه : لا شيء , إنه وهم شعري تمكن مني .

لا , لا , لا , يا جوزيف . إن هناك أمراً يمزق أحشائي ويميتني في كل يوم , بل في كل دقيقة. لقد تراكمت عليّ المصائب في السنوات الأخيرة وانقضَّت عليَّ وحدتي الرهيبة – التي هي معنوية أكثر منها جسدية – فجعلتني أتساءل كيف يمكن عقلي أن يقاوم عذاباً كهذا . وكان عزائي الأوحد في محنتي هذه مكتبتي ووحدتي الشعرية , فكنت أعمل كالمحكومة بالأشغال الشاقة لعلي أنسى فراغ مسكني , أنسى غصة نفسي , بل أنسى كل ذاتي .

إنه ليدهشني حقاً كيف أني استطعت أن أكتب هذه الرقيمة . ولعل الفضل في هذا يعود جزئياً إلى اللفائف التي أدخنها ليل نهار – أنا التي لا عهد لي بذلك – أدخلتها لتضعف قلبي , هذا القلب السليم المتين الذي لا يقاوم ...
واسلم لابنة عمك
ماري

وتعطي مي – بكل أسف المفتاح لابن عمها ليفتح عليها نار جهنم بهذا الخطاب الذي كتبته في لحظة ضعف تستنجد بأقرب من بقي لها في الدنيا .. على قيد الحياة .

يعرف الدكتور – ابن العم – بأن مي تنوي التبرع بمكتبتها النفيسة إلى الأمة المصرية بعد وفاتها عرفاناً منها بفضل مصر عليها .. كما أرادت أن تهدي النسخ المزدوجة من كل كتاب إلى الأمة اللبنانية .. وبدأت فعلاً تبحث عن المحامين لوضع هذه الوصية في سياق قانوني . فما كان من الأقارب الذين تحولوا في هذه الحالة إلى "عقارب" إلا أن أرسلوا إلى " مي" من يجمع المعلومات عنها .. وعن وضعها المالي وأملاكها في مصر !

ثم جاءها ابن عمها من لبنان بعد وفاة زوجته التي كانت مريضة .. وطلب منها أن تصحبه إلى لبنان لتغير جو الكآبة الذي تعيش فيه .. ووعدها بأن الدفء والناس الذين يحبونها في لبنان سيعوضونها عن فقد الأحباب ومشاعر الوحدة التي تعيشها في مصر بعد الحياة المليئة التي كانت تعيشها كنجمة في سماء الأدب .

وتحكي مي بنفسها ما حدث لأمين الريحاني أحد أصدقائها المقربين .. الذين وقفوا معها في هذه المحنة الكبرى في حياتها .. فتقول :

كان ابن عمي يحيك لي الدسائس وينصب لي الفخ وهو يظهر بمظهر الصديق الوفي والأخ البار . يراسلني من حين إلى حين فأرد على رسائله بسرور . ولما سألته الحضور إلى مصر . رد عليّ بخطاب كله عطف واهتمام ووعدني بالحضور عند تحسن صحة زوجته . على أن زوجته توفيت بعد قليل ولم يطل حتى جاء مصر . أليساعدني ويخفف من مصيبتي ؟ هذا ما يزعمه . على أن الحقيقة هي أنه هرع ليستكشف أعمالي وماليتي ويقف على كل شيء في حياتي . وكان أنه خاطبني برقته المألوفة في تعيينه وكيلاً عني ليخدمني ويطمئن بالي .

فأجبت بأن لا أملاك لي في مصر وأن أعمالي المالية منظمة تنظيماً لا يحوجني إلى مساعدة أحد . فألح وقال : فكري في هذا إكراماً لي . قلت : سأفعل وإن لم يكن هناك ما يدعو إلى التفكير .

وبعد هذا الكلام بيوم واحد جاءني مع رجلين من انسبائه كانا يلازمانه في بيتي وفي الخارج طول مدة إقامته بمصر يتبعهم باشكاتب محكمة عابدين ووكيله على ما قيل لي . وفتح الباشكاتب دفتراً كبيراً جداً وسحب الدكتور جوزيف من جيبه قلمه الحبر وقدمه لي طالباً أن أوقع في الدفتر . وأي تأثير سيطر علي في تلك الساعة ؟ كيف لم أعجب لمجيء الباشكاتب دون أن استدعيه وكيف لم أرفض التوقيع ؟ لست أدري .

بحركة ميكانيكية تناولت القلم ورفعت نظري إلى الباشكاتب استفهم عن المكان من الدفتر الذي اكتب فيه اسمي . فنظر إلي نظرة طويلة كأنما هو عالم بما سيجره علي هذا التوقيع من المصائب . ثم أشار إلى مكانين اثنين فوقعت مكرراً , مي زيادة , وتحته ماري جبران . وأخذوا بعدئذ يعدون الحقائب للسفر وأنا أعلن بثبات إني لا أترك البيت ولا أغادر مصر .

فقال الدكتور أن البيت يبقى على ما هو وكل شيء فيه في مكانه ريثما أعود من لبنان بعد شهرين. فإنما ما أحتاج إليه على قوله هو تغيير الهواء وتغيير المحيط .

وفي لبنان لا أكون وحدي , بل يحيط بي أعضاء عائلتي الذين سينسيني حنانهم ومحبتهم إني وحيدة وإني حزينة . وأقسم الدكتور بأولاده وبشرفه أن يردني إلى مصر حتى بعد أسبوع واحد فيما لو صارحته برغبتي في ذلك .

وتكمل مي من قصتها الباكية .. بعد سنوات المجد والشهرة .. فتقول :



يتبع
__________________


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-09-09, 04:01 PM   #20
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: سطور دافئة بقلم الكاتبة مي زيادة


[align=center]أخرجوني من بيتي قبل الساعة الرابعة بعد الظهر وأوصلوني إلى مكاني في القطار وغابوا عني فبقيت جالسة حتى عاد الدكتور والرجلان الآخران . وعندئذ قام القطار إذ نحن في منتصف الساعة السادسة . ومنذ الأسبوع الأول في بيروت ذكرت الدكتور بوعده وقلت إني أرغب في الرجوع إلى بيتي . فطيب خاطري .. وأبقاني عنده شهرين ونصف شهر على مضض مني وأنا أطالبه بالعودة . حتى استكمل برنامجه في أمري , فأرسلني إلى " العصفورية".

كيف حدث هذا ؟ كيف وضعت الأديبة العربية النابغة في مستشفى الأمراض العقلية بلبنان .. وهي واحدة من أندر العقول العربية وأبدعها .. تعالوا نسمع من مي الحكاية !

جاء الطبيب المعالج في " العصفورية" مستشفى الأمراض العقلية – تصحبه ممرضة - وكانت تلك في تاريخ العصفورية أول مرة خرج فيها طبيب إلى بيت مريض ليحمله إلى " المارستان" . وعندئذ حنان أقاربي ووفائهم وحرصهم على صحتي وكرامتي , كلها ظهرت في أجلى المظاهر إذ كتفني طبيب العصفورية بجاكت المجانين تساعده الممرضة ونفحني بإبرة مورفين بساقي وأنا أصيح من فرط الوجع وأستغيث .

واه يا بيروت ؟ كيف احتملت أن أجتاز شوارعك في ذلك الموكب المشين الأليم ؟ كيف احتملت الدموع التي سكبتها في تلك السيارة وأنا بين ذلك الطبيب وتلك الممرضة أشعر بوحدة رهيبة في الدنيا وأرى القدر المروع المعد لي دون أن أدري لماذا ؟

بحجة التغذية وباسم الحياة ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل وأموت شيئاً فشيئاً . لست أدري إذا ما كان الموت السريع هيناً . أما الموت البطيء طيلة عشرة شهور وأسبوع من التغذية القهرية تارة من الفم بتقطيع لحمة الأسنان وطوراً من الأنف بواسطة التبريح ليصب ما يصب من الداخل نزولاً إلى الحلق فالصدر . فذلك موت لا أظن أن إنساناً يحتمل الإصغاء برباطة جأش إلى وصفه . ومع ذلك فكان أقاربي في زيارتهم النادرة يستمعون إليّ بسرور وأنا أصف نكالي وشقائي راجية منهم عبثاً أن يرحموني ويخرجوني من العصفورية .

وأهملوني هنالك لا سلوى ولا تعزية . وكان الدكتور يزعم إني سأموت جوعاً إذا ما أخرجني من العصفورية إلا أنه اضطر إلى نقلي إلى مستشفى ربيز فوصلته شبحاً . فإذا بهم هنا يستعملون في تغذيتي القهرية الملقط الحديدي الخاص بالعمليات الجراحية مما لا تفلح معه مقاومة . نقلوني إلى هذا المستشفى أقيم أياماً ريثما يعد لي منزل أسكنه لأنه ليس معقولاً أن يقطن الإنسان بالمستشفى طول حياته ولأن قلبي يحترق على الإقامة في منزل لي كسائر الناس , على أن البيت المزعوم لم يعد لي في عشرة شهور . كما جاءوا بي أصطاف في لبنان شهرين وما زلت أصطاف في قلب الشتاء وبعد اثنين وعشرين شهراً .

وجاء الفرج أخيراً بعد عامين من أقسى العذاب . جاء الفرج على يد الصحافة والصحفيين من أبناء مهنتها .. فقد كانت قضية إدخال مي زيادة مستشفى الأمراض العقلية " العصفورية" هي حديث الصحف والموضوع الذي يحتل مساحة كبيرة من اهتمام القراء في بيروت والقاهرة وأيضاً في بلاد المهجر . وشنت جريدة " المكشوف" حملة كبيرة حول هذا الموضوع .. وتابعت قصة مي خطوة بخطوة حتى استطاعت في عام 1938 أن تكشف المؤامرة ونشرت في الصفحة الأولى :

وأخيراً استطاع " المكشوف" أن يلفت أنظار الأدباء ورجال القضاء إلى المؤامرة التي وقعت الأديبة مي في شباكها , بفضل حملة قام بها في هذا السبيل دامت أربعة أشهر .

وقد لاقى "المكشوف " من أجل الكشف عن هذه الدسيسة ما تلاقيه كل صحيفة حرة من تهديد ووعيد . فقد اتصل أمر الدسيسة بالنيابة العامة عن طريق مكتب الاستاذين حبيب أبو شهلا وبهيج تقي الدين وكيلي الآنسة مي فأجرت تحقيقاً في الحجر على حرية الأديبة الكبيرة وأمرت بنقلها إلى المستشفى الأمريكي حيث تعيش في جو مشبع بالعطف , بعيد عن كل ضغط , وحيث زارتها لجنة من الأطباء لتقرير مصيرها . فكان تقريرهم في غير مصلحة المغرضين .

وقد لفتت الضجة التي أثرناها حول مأساة مي الصحف اليومية الكبرى , فراحت تتحدث عن تطورها حديثاً مما سيكون له أثره الطيب في إنقاذ مي من محنتها ولو أنه جاء متأخراً .

وفي مقدمة هذه الصحف الزميلتان " الحديث" و " صوت الأحرار" اللتان ننقل عنهما بعض ما نشرناه في هذا الصدد :

حديث الكاتب الصحفي سعيد فريحة .. ونشر في جريدة " الحديث" ببيروت .. وهذا نصه .

بدأت مي تتكلم بلغة فصحى ممزوجة باللهجة المصرية , وبطلاقة لسان مدهشة . وأوقع شيء في النفس كان صوتها العذب , وإخراجها الكلمات هادئة بنبرات موسيقية حزينة .

قالت : أردتم أن أكلمكم بصراحة عن سبب كرهي لرجال القانون , نعم أنا أكرههم لأني لم أغادر مصر , ولم يؤت بي إلى لبنان , ولم أدخل إلى العصفورية , إلا بفضل القانون ورجال القانون , بل أنا صرت مجنونة قانوناً.

وأما الأطباء هؤلاء الذين يؤتمنون على أرواح الناس , هؤلاء الذين ينحنون على أسرة السماء , هؤلاء الذين يقسمون اليمين على السير في طريق الشرف والكرامة والاستقامة , وعلى تخفيف محن الناس , وويلات الإنسانية , هؤلاء الأطباء أكرههم لأني صرت مجنونة طبياً ووقعت في شرك المؤامرة بفضل الطب والأطباء .

بقي الصحافيون , وكرهي لهؤلاء أشد , يوم نشروا خبر جنوني , وأوجدوا عند الناس في الشرق وفي الغرب فكرة بل اعتقاداً بأن مي مجذوبة , ولو أن إساءتهم لي اقتصرت على ذلك لهان الأمر , ولكن هناك ما هو أمر وأفظع. أنا صحافية , وبنت صحافي , ولقد كان على الصحافيين في لبنان , إن لم يكن إكراماً لي بل إكراماً لوالدي , أن يبدوا شيئاً من الواجب نحو زميلهم , ابنة زميلهم , أن يسألوا عنها أو يقوموا بزيارتها عندما سمعوا بخبر عنها لمعرفة ما في هذا الخبر من الصحة .

إنكم معشر الصحافيين تتحرون الحقيقة في كل مكان . إنكم تهتمون بالرجال وما يقولون النساء وما يلبسن , إنكم تبحثون أحياناً عن أتفه المواضيع وتخرجونها إلى قرائكم , أنتم يا زملائي وزملاء والدي لم يوجد أحد يسأل عن " مي" ويتحرى حقيقة جنونها , فلا يوجد واحد بينكم يفكر بزيارة هذه الأديبة الصحافية , النابغة التي تخنق الأطفال وتكسر الحديد !!

وقد تقولون إن هذا الذي أشيع عني كان كحقيقة راهنة عندكم , فلم تشأوا زيارتي حتى لا تحزنوا على مصيري .. قد يكون ذلك صحيحاً . ولكن هذا الاعتقاد وتلك " الشفقة" لا ينبغي أن تضع حجاباً من الإهمال والنسيان بين الصحافيين والأدباء وبين زميلتهم " مي" .

إن " مي " لا أهل لها . إن أبي وأمي وأهلي هم الصحافيون هم الأدباء , هم رجال القلم , أفما كان يجدر بكم أن تحيطوني ببعض العناية عسى أن تخففوا عني وطأة الجنون أنا التي أكسر الحديد , وأخنق الأطفال .

أين رجال الأدب في لبنان ؟ أين رجال القانون ؟ أين الجمعيات النسائية ؟ أين نصيرات المرأة ؟ ألم يوجد بينهن واحدة تدافع عني أنا التي قضيت السنين الطوال أدافع عن حق المرأة , ووقفت قلمي على خدمة بنات جنسي , ورفع مستواهن ورد الظلم عنهن ؟

أجل , أين هؤلاء وأولئك ؟ بل أين لبنان , لبنان الذي طويت ضلوعي على حبه , لبنان الذي تغنيت في الجرائد والكتب والمجلات ومن فوق المنابر , بجماله , بجباله , ببنيته , لبنان الذي ما حلت به محنة إلا انهمر الدمع من عيني , لبنان هذا لم يوجد فيه واحد يبكي على محنتي التي انطوت على محن كثيرة .

تلك هي مكافأة لبنان لابنته مي : إهمال مفجع , وتغاض مخجل عن أحط مؤامرة جاءت بي من مصر , وألقتني مدة سبعة شهور في العصفورية أتفرج في النهار على مواكب النساء العاريات , أسمع ألفاظاً ما كنت أعلم بأنها موجودة وإن في البشر من يتلفظ بها , وأسمع في الليل عواء الذئاب وأصوات ابن آوى . أسمع وأرى كل هذا وليس هناك من يسمع صوتي , أو يرى محنتي فيبادر إلى إنقاذي .

سبعة أشهر قضيتها في " العصفورية" في لبنان على هذه الحال , وفي تلك الغمرة من الألم واليأس والعذاب , دون أن يهتز عرق بالشفقة أو لسان بالسؤال .. ولهذا اسمحوا لي أن أقول بكل ألم , وبكل أسف وخجل أيضاً إني كنت أردد , وأنا على تلك الحال , في كل يوم وفي كل ساعة : لعنة الله على لبنان ..[/align]


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-09-09, 07:32 PM   #21
 
الصورة الرمزية حسين الحمداني

حسين الحمداني
هيئة دبلوماسية

رقم العضوية : 11600
تاريخ التسجيل : Sep 2008
عدد المشاركات : 5,724
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ حسين الحمداني
مشاركة رد: سطور دافئة بقلم الكاتبة مي زيادة


السلام عليكم
اخي الكريم اكتفيت الان من الجزء الاول للموضوع ويتضح جليلا انكم اعددتموه جيد وقمتم بتغطية كل الجوانب الانسايه والاجتماعيه والادبيه للكاتبه وحياتها وصاولنها الادبي المميز لذا من منا المطلعين والمتأثرين بالتاريخ الادبي والمسيرة الادبيه والفكريه لكل مفكر الا أن يجمع ويلملم كل ماهو ثري وغني ليليق وليتعلم ويكتسب التجربه وكما يقول المثل ((العربي المصري يموت المعلم وميتعلم))

ولكن الفترة الفكريه والادبيه المصريه برزة فيها الادباء والمفكرين وبان علو كعب الثقافه العربيه هناك من تلك المنتديات التي جمعت ادبائنا ومفكرينا وهذا فضلا للاديبه والكاتبه وبدون شك كانت هي تكتسب من مناهل الحاضرين وهم كذلك وهذة منفعه يرجع فضلها للكاتبه وللمجتمع
وكل ما ذكرتم اخي الكريم يغني عن التفصيل
نتابع معكم الجزء الثاني والثالث بأذن الله جهد مشكور ومميز تقبل تقديري


حسين الحمداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
الكاتبة , تقلل , دافئة , زيادة , سطور


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:03 AM

Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.

زهرة الشرق   -   الحياة الزوجية   -   صور وغرائب   -   التغذية والصحة   -   ديكورات منزلية   -   العناية بالبشرة   -   أزياء نسائية   -   كمبيوتر   -   أطباق ومأكولات -   ريجيم ورشاقة -   أسرار الحياة الزوجية -   العناية بالبشرة

المواضيع والتعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي منتديات زهرة الشرق ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك

(ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر)