عرض مشاركة واحدة
قديم 12-10-09, 04:04 AM   #29
 
الصورة الرمزية حسين الحمداني

حسين الحمداني
هيئة دبلوماسية

رقم العضوية : 11600
تاريخ التسجيل : Sep 2008
عدد المشاركات : 5,722
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ حسين الحمداني
رد: الحكمة في نهج البلاغة //ج2


الشّبهة؛ مجالاتها وبواعثها:
إنّ نهج البلاغة «فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق»، بَيْد أنّ البعض في مريةٍ من صدوره عن أمير المؤمنين عليه السّلام. وهذه الشّبهة المثارة حول هذا الكتاب الجليل كانت في عصر ابن أبي الحديد حين بدأ شرحه له، إذ دسّها عليه «جماعة من أهل الأهواء». يقول ابن أبي الحديد في هذا المجال: (كثير من أرباب الهوى يقولون: إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلام مُحدَث صنعه قوم من فصحاء الشّيعة! وربما عَزَوا بعضه إلى الرّضيّ أبي الحسن أو غيره! وهؤلاء أعمت العصبيّة أعينهم فضلّوا عن النهج الواضح، وركبوا بُنيّات الطّريق ضلالاً وقلّة معرفة بأساليب الكلام) (1).
وتبعاً لزيغ هؤلاء الضُلاّل، أُثيرت هذه الدّسيسة أيضاً في العصور اللاحقة، فقد طرحها من المستشرقين: «مسيو ديمومين» و «كارل بروكلمان»، ومن كتّاب العرب: «جرجي زيدان». وساقوا على زعمهم أدلّة باطلة، منها:
1 ـ في نهج البلاغة تعريض بالصّحابة، وهذا لا ينسجم مع شأن الإمام عليه السّلام وخلقه.
2 ـ وردت فيه كلمة «الوصيّ» و «الوصاية»، في حين أنّ هذين المصطلَحين لم يكونا معروفَين عند النّاس يومذاك.
3 ـ طول بعض الخطب أو بعض الكتب، وهو ما لم يتناسب مع الأُسلوب المتعارف آنئذٍ.
4 ـ وجود السَّجْع وغيره من المحسّنات اللفظيّة، الّتي دخلت إلى الأدب العربيّ في العصور المتأخرّة.
5 ـ الوصف الدّقيق لبعض الحيوانات، كوصف: الخفَاش، والطّاووس، والنّملة، وهو يُشابه غالباً ما جاء في ترجمة الكتب اليونانيّة والفارسيّة.
6 ـ تقسيم المعاني والمسائل وتقطيعها، وهو أمر لم يُؤلَف يومئذٍ، وقد أصبح متداولاً بتأثير الترجمة.
7 ـ وجود عبارات يُشَمُّ منها زعم العلم بالغيب، في حين أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لم يكن بالإنسان الّذي يزعم ذلك.
8 ـ وجود كلمات كثيرة في باب الزّهد وذكر الموت، وهو ما يمكن أن يدلّ على التقاء المسلمين بالنّصارى وتأثّرهم بأفكارهم من جهة، ويمثّل تأثّراً بأفكار الصّوفيّة من جهة أُخرى. وهذان كلاهما من الظّواهر المرتبطة بعصر ما بعد الإمام عليه السّلام.
9 ـ إسناد بعض الجمل والعبارات الواردة فيه إلى أشخاص آخرين في بعض الكتب والمصادر القديمة.
10 ـ عدم الاستشهاد بنصوصه الأدبيّة في عدد ملحوظ من كتب اللغة والأدب. من هنا، لعلّ فقدان سند الحديث في نصوصه هو الّذي حدا البعض ـ في أوّل نظرةٍ له ـ ألاّ يخالَ هذا الوهم بعيداً عن الحقيقة فيتورّط في فخّ هذا الخطأ.
ومن الممهّدات الأُخرى لهذه الشّبهة هي أنّ الشّريف الرّضيّ كان شيعيّاً ذا مودّةٍ لآل البيت عليهم السّلام، وكان أديباً مقتدراً وشاعراً مُفلّقاً في آنٍ واحد.
فقد قال الدكتور شفيع السّيّد ـ وهو أحد الممترين في سند النهج: (انتماء الشّريف الرّضيّ إلى البيت العلويّ يسّر الشّكّ في صحّة قوله واحتمال تعصّبه وانحيازه إلى عليّ... وقال بعض من كتب حوله: كان شاعراً ذَلَّ له قياد الطّبع، وكان له لسان طلق لبق، ومع قدرته في الشّعر كان بليغاً مقتدراً في النثر أيضاً) (2).
هذا في الوقت الّذي يستبين فيه وهن هذا الوهم وضعفه بأدنى تأمّل، وتنجلي الحقيقة القائلة بأنّ النّهج الّذي هو «فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق» قد صدر عن مولى المتّقين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.
وقبل الإجابة على هذه الشّبهات، يمكننا بنظرةٍ عامّة أن نوجز الأدلّة على صحّة هذا الكتاب العزيز بما يأتي:


الف ـ سبك الكلام وأُسلوبه:
فكلّ من ذاق حلاوة الأدب العربيّ وخَبَره يسيراً أدرك بعد التأمّل في «نهج البلاغة» أنّ ألفاظه لم تصدر عن شاعر أو خطيب عادي، ولم تتيسّر إلاّ لأمير خطباء العرب وفصحائهم. وهو الّذي قال فيه ابن أبي الحديد: (عليّ إمام الفصحاء، وسيّد البلغاء؛ وفي كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين. ومنه تعلّم النّاس الخطابة والكتابة). وإذا شارف الأدباء والخطباء برمّتهم هذا الكتاب نطقوا بالثناء عليه من جهة، واعترفوا بعجزهم عن وصفه وبلوغ شأوه وعمقه من جهة أُخرى، وأكبروه فعدّوه منهل البلاغة والخطابة وأماطوا اللثام عنه من جهة ثالثة، حتّى إنّهم رأوا في كلّ نظرة متجدّدة إليه قبسات بديعة، وأصابوا منه رشفات مُريعة (3).
قال عبدالحميد بن يحيى الكاتب: (حفظتُ سبعين خطبة من خطب الأصلع، ففاضت ثمّ فاضت). وقال ابن نُباتة: (حفظتُ من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلاّ سعةً وكثرةً. حفظتُ مائة فصلٍ من مواعظ عليّ بن أبي طالب). ونقل ابن أبي الحديد في موضع من شرحه عن ابن الخشّاب حين قيل له: (إنّ كثيراً من النّاس يقولون إنّها [الخطبة الشقشقيّة] من كلام الرّضيّ رحمه الله تعالى. فقال: أنى للرّضيّ ولغير الرّضيّ هذا النَّفَس وهذا الأُسلوب ؟! قد وقفنا على رسائل الرّضيّ، وعرفنا طريقته وفنّه في الكلام المنثور، وما يقع مع هذا الكلام في خَلٍّ ولا خَمْر) (4).


ب. الانسجام والتماسك الباطنيّ:
إن الانسجام والتماسك الباطنيّ في مجموعةٍ ما منس أهمّ الأدلّة على أصالتها وعلوّ شأنها. وفنلحظ في القرآن الكريم أنّه عندما أشار إلى شبهة الكافرين في صدور القرآن عن النّبي صلّى الله عليه وآله أجاب: «ولو كانَ مِن عندِ غيرِ الله لَوجدوا فيه اختلافاً كثيراً» (النساء : 82).
وهذا الّدليل من أهمّ الأدلّة الّتي تَعرَّض لها ابن أبي الحديد، فقال: (لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً، أو بعضه.
والأوّل باطل بالضرورة؛ لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام؛ وقد نقل المحدّثون ـ كلّهم أوجُلّهم ـ والمؤرّخون كثيراً منه، وليسوا من الشّيعة ليُنسبوا إلى غرض في ذلك.
والثّاني يدلّ على ما قلناه؛ لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة، وشدا طَرَفاً من علم البيان، وصار له ذوق في هذا الباب، لابدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولَّد. وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط، فلابدّ أن يفرّق بين الكلامين، ويميّز بين الطّريقتين؛ ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشّعر ونقده، لو تصفّحنا ديوان أبي تمام فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره لعرفنا بالذّوق مباينتها لشعر أبي تمام نفسه، وطريقته ومذهبه في القريض ؟ ألا ترى أنّ العلماء بهذا الشّأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشّعر ؟ وكذلك حذفوا من شعر أبي نؤاس كثيراً لما ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره؛ وكذلك غيرهما من الشّعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذّوق خاصّة.
وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً، ونَفَساً واحداً، وأسلوباً واحداً، كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهيّة؛ وكالقرآن العزيز: أوّله كوسطه، وأوسطه كآخره، وكلّ سورة منه، وكلّ آية مماثلة في المأخذ والمذهب والفنّ والطّريق والنَّظْمس لباقي الآيات والسّور.
ولو كان بعض نهج البلاغة منحولاً، وبعضه صحيحاً لم يكن ذلك كذلك؛ فقد ظهر لك بالبرهان الواضح ضلال من زعم أنّ هذا الكتاب أو بعضه منحول إلى أمير المؤمنين عليه السّلام.
واعلم أنّ قائل هذا القول يَطرُق على نفسه ما لا قِبَل له به، لأنّا متى فتحنا هذا الباب،
وسلّطنا الشّكوك على أنفسنا في هذ النحو، لم نثق بصحّة كلامٍ منقول عن رسول الله صلّى الله عليه وآله أبداً، وساغ لطاعن أن يطعن ويقول: هذا الخبر منحول، وهذا الكلام مصنوع... وكلّ أمر جعله هذا الطّاعن مستنَداً له فيما يرويه عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة الراشدين والصحابة والتابعين والشعراء والمترسّلين والخطباء؛ فلناصري أمير المؤمنين عليه السّلام أن يستندوا إلى مثله فيما يروونه عنه من نهج البلاغة وغيره؛ وهذا واضح) (5).


ج ـ انسجام المضمون مع سائر الأحاديث:
إنّ كثيراً ممّا جاء في نهج البلاغة في: الميادين الكلاميّة، والأخلاقيّة، والاجتماعية.. وغيرها ينسجم مع ما أُثِر عن النّبيّ صلّى الله عليه وآله والأئمّة عليهم السّلام في هذا المجال. وهذا الانسجام واضح ملموس، وهو دليل آخر على أنّ الوارد فيه يفيض ممّا تفيض منه كلمات المعصومين عليهم السّلام، فنبعهما واحد. ولعلّ في المقطع الأخير من كلام ابن أبي الحديد المذكور إشارةً إلى هذا الدليل.


د ـ الرّصيد التّاريخيّ للرّوايات المذكورة في نهج البلاغة:
المأثور في «نهج البلاغة» ملحوظ أيضاً في المصادر الشّيعيّة والسّنيّة المتقدّمة عليه أو المتأخّرة عنه. وما محاولة الشّريف الرّضيّ في جمع كلمات الإمام عليه السّلام إلاّ نموذج واحد من محاولات عزم عليها مشهورون قبله.
قال محمّد أبو الفضل إبراهيم في مقدّمته على شرح ابن أبي الحديد: (... فقد حاول كثير من العلماء والأدباء على مرّ العصور أن يُفردوا لكلامه كتباً خاصّة ودواوين مستقلّة، بقي بعضها وذهب الكثير منها على الأيّام؛ منهم: نصر بن مزاحم صاحب «صِفّين»، وأبو المنذر هشام بن محمّد السّائب الكلبيّ، وأبو مِخْنَف لوط بن يحيى الأزديّ، ومحمّد بن عمر الواقديّ، وأبو الحسن عليّ بن محمّد المدائنيّ، وأبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، وأبو الحسن عليّ بن الحسين المسعوديّ، وأبو عبدالله محمّد بن سلامة القُضاعيّ، وعبدالواحد بن محمّد بن عبدالواحد التّميميّ، ورشيد الدّين محمّد بن محمّد المعروف بالوَطْواط، وعزّ الدّين عبدالحميد بن أبي الحديد، وغيرهم كثيرون) (6).
ونقل ابن أبي الحديد في موضع من شرحه في ذيل الخطبة الشقشقيّة (الخطبة الثّالثة) عن ابن الخشّاب أنّه قال: (والله، لقد وقفتُ على هذه الخطبة في كتب صُنِّفت قبل أن يُخلَق الرّضيّ بمائتي سنة. ولقد وجدتُها مسطورة بخطوطٍ أعرفها، وأعرف خطوط مَنْ هو من العلماء وأهل الأدب قبل أن يُخلَق النقيب أبو أحمد والد الرّضيّ).
ويضيف ابن أبي الحديد قائلاً: (وقد وجدتُ أنا كثيراً من هذه الخطبة في تصانيف شيخنا أبي القاسم البَلْخيّ إمام البغداديّين من المعتزلة... قبل أن يُخلَق الرّضيّ بمدّة طويلة، ووجدتُ أيضاً كثيراً منها في كتاب أبي جعفر بن قبّة أحد متكلّمي الإماميّة، وهو الكتاب المشهور المعروف بكتاب «الإنصاف»... ومات [ابن قبّة] في ذلك العصر قبل أن يكون الرّضيّ رحمه الله تعالى موجوداً) (7).
واستنبط محمّد أبو الفضل إبراهيم ـ في مقدّمته على الشّرح ـ من تضاعيف نهج البلاغة أنّ الشّريف الرّضيّ استخرج الخطب، والكتب، والحِكمَ من كتبٍ صُنِّفت قبله، منها: «البيان والتّبيين» للجاحظ، و «المقتضب» للمبرّد، و «المغازي» لسعيد بن يحيى الأمويّ؛ و «الجُمَل» للواقديّ، و «المقامات في مناقب أمير المؤمنين» لأبي جعفر الإسكافي، و «تاريخ الطّبريّ»، وحكاية أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر عليه السّلام، ورواية اليمانيّ عن أحمد بن قتيبة، وما وُجد بخطّ هشام بن الكلبيّ، ومصادر أخرى من هذا الضّرب.
على أيّ حال، صُنِّفت كتب ورسائل مستقلّة في أسانيد الخطب، والكتب، والكلمات القصار في نهج البلاغة. وذُكر فيها عنوان كلّ رواية في عددٍ من الكتب أو الرّسائل بنحو مستقلّ.
ومراجعة لكتاب «استناد نهج البلاغة» لامتياز علي خان القرشيّ، و «مصادر نهج البلاغة وأسانيده» للسّيّد عبدالزهراء الحسينيّ، و «دراسة في أسناد نهج البلاغة ومداركه» [بالفارسيّة] للسيّد محمّد مهدي الجعفريّ، و «مدارك نهج البلاغة» لرضا أستادي، و «مصادر ومراجع نهج البلاغة» لمحمّد دشتي وكاظم محمّديّ.. هذه المراجعة تُقدّم لنا نماذج من «أسناد نهج البلاغة».


* * *


.


يتبع


توقيع : حسين الحمداني


زهرة الشرق

zahrah.com

حسين الحمداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس