رد: رباعيات الخيام (ترجمة الصافي النجفي)
أحمد الصافي النجفي...الشاعر الغائب الحاضر
د. سعدي غزاي عمران
التعريف بالشاعر:
ولد شاعرنا احمد علي الصافي النجفي في مدينة النجف الأشرف عام 1894م "لأب من أسرة حجازية الأصل وأم لبنانية من مدينة صور"،"تنحدر أصوله من اسرة علمية دينية مرموقة يتصل نسبها بالإمام موسى الكاظم وكانت تعرف بآل السيد عبد العزيز "،وتلقّی دراسته في مدارس النجف، ثم انتقل إلی إیران،أو هرب الى ايران بعبارة اصح وذلك فی العشرین من عمره في عام 1920 حيث أصدر الحاكم الإنكليزي أمراً بإلقاء القبض على الصَافي لكونه من المحرضين على ثورة العشرين ومن فاضطر إلى مغادرة العراق إلى إيران واستقر بولاية شيراز وهناك تعلم اللغة الفارسية وعمل مدرساً للآداب العربية في ثلاث مدارس وتابع نشر مقالاته في الصحف والمجلات وناصر في مقالاته وشعره الثورة الدستورية في ايران التي عرفت بحركة"المشروطة" فلفت الأنظار إليه وانتخب عضواً في النادي الأدبي وبعدها عيّن عضواً في لجنة التأليف والترجمة، ثم كلفته وزارة المعارف في ايران ترجمة كتاب في (علم النفس) لمؤلفيه علي الجارم وأحمد أمين من العربية إلى الفارسية لتدرّس في دار المعلمين بطهران فترجمه بدقة الى الفارسية، ثم ترجم رباعيات الخيام من الفارسية إلى العربية اذ تعتبر أفضل ترجمة لأنه نقلها عن الأصل الفارسي وطبعت للمرة الأولى في طهران"، حیث قال الصافي بعد فراغه من التعریب:«...ولما أكملتُ التعریب عرضته علی أدباء الفرس فقابلوه بالأصل وأكبروه غایة الإكبار.. وإلیك ما فاه به أكبر شعراء الفرس وهو محمد حسین بهار الملقب بـ(ملك الشعراء): إن بعض التعریب مع كونه مطابقاً للأصل جداً فهو یفوقه من حیث البلاغة والأسلوب كهذه الرباعیة:
لم یحظَ في الدهرِ من وردِ الخدودِ فتیً إلّا وكابدَ من أشواكه العَطَبا
أنظرْ إلی المُشطِ لم تبلغْ أناملـُه أصداغَ أغیدَ ما لم ینشعبْ شُعَبا
والرباعیة الآتیة:
أیا فلكاً یربّي كلَّ نذلٍ ولیس یدورُ حسبَ رضا الكریمِ
كفی بك شیمةً أن رحتَ تهوي بذي شرفٍ وتسمو باللئیمِ »
ثم عاد إلى العراق بطلب الحكومة العراقية وأصدقائه ليخدم بلده فعيّن قاضياً في مدينة الناصرية لثلاث سنوات.
وفي عام 1930 ذهب إلى سورية للاستشفاء على إثر وعكة صحية ألمت به، وكان يتنقل بين دمشق وبيروت متابعاً رسالته الأدبية. وعندما اندلعت الحرب بين الحلفاء والمحور عام 1941 أدخل الصافي النجفي السجن بأمر السلطات الإنكليزية على إثر الأشعار الوطنية التي راح ينظمها ويهاجم فيها الاستعمار والمستعمرين حتى ألهب حماس العراقيين، ومكث في التوقيف ثلاثة و أربعين يوماً تحت إدارة الأمن العام الفرنسي ثم أفرج عنه ونظم في السجن ديوانه الشهير (حصاد السجن)،الذي يعد ظاهرة فريدة من نوعها في أدبنا الحديث، وأهداه لكفاح الشعب العراقي ضد الانجليز وعملائهم قائلا:
لئن أُسْجَنْ فما الأقفاصُ إلا لليثِ الغابِ أو للعندليبِ...
ألا يا بلبلاً سجنوك ظلماً فنُحْتَ لفُرقةِ الغصنِ الرطيب
وقد حرص الشاعر علی إبقاء حصیلة أشعاره في السجن بعیدة عن النشر لأسباب لم یفصح عنها في حینه ومن المرجح أنها كانت سياسية.
أمضى الصافي 36 عاماً متنقلاً بين إيران و سورية ولبنان وكانت المقاهي ضالته في دمشق فكان يرتاد مقاهى (الهافانا) و (الكمال) و (الروضة) لانها كانت ملتقى الشعراء والأدباء والصحفيين. كان الصافي قليل الدخل فاتخذ غرفة قديمة في (مدرسة الخياطين) وكان من أصدقائه بدمشق الدكتور عبد السلام العجيلي وفخري البارودي وبدوي الجبل ومحمد الحريري وأحمد الجندي وعمر أبو ريشة وسعيد الجزائري. ومن أصدقائه في لبنان الشاعر القروي وميخائيل نعيمة ومارون عبود وغيرهم.
وفي خلال إقامته في لبنان كان يرتاد مقهى الحاج داود ومقهى البحرين ومقهى فاروق وفي المساء كان يأوي إلى غرفة متواضعة قرب مستشفى (أوتيل ديو)."
حياة الغربة والتشرد والسجون:
عاش الصافي النجفي حياة عجافاً، حياة ممزقة بين السقم واليتم والألم والحرمان؛ مات أبوه ولم يبلغ الثانية عشرة، وتوفيت أمّه ولم يكمل السابعة عشرة من عمره، فداهمته الأحزان والعلل، حتى قال في ذلك:
أسیرُ بِجسمٍ مُشْبِهٍ جسمَ مَیِّتٍ كأنّي إذا أمشي بهِ حامِلاً نَعْشِي
وعاش غريباً داخل نفسه وغريباً بين أهله وعشيرته "بل الغريب من هو في غربته غريب "كما يقول أبو حيان التوحيدي. فكتب الصافي، بحسّ مرهف وبدمع ذارف، أجمل قصائد الغربة، والمعاناة من السجن التي وصفها بالغربة داخل الغربة لأنه سجن خارج وطنه (أری في غربةِ الإنسانِ سجناً فكیف بسجنِ إنسانٍ غریبِ؟! )، كما عبر عن ذلك في قصيدة "شاعر وأزهار"إذ يقول ونحن نلمس في قوله عذوبة لغة هذا الشاعر وفرط حساسيته الممتزجة بالألم والمعاناة:
أقبّلُ الزهرَ في الأغصان مـزدهِياً وما تسوغُ كفي قـطفَ أزهارِ
جرّبتُ من غربتي ما لستُ أحـمِلهُ فما أكلّفُ غيري غربةَ الـدار
تموتُ للـغربةِ الأزهارُ إن قُطِفـتْ فكيف يحيا غريبٌ رهنُ أسفار؟
لو كان يحملُ حسَ الزّهرِ مغـتربٌ لماتَ كالزهرِ من همٍ وأكـدار
يبدو لي الزهرُ تزدانُ الصدورُ به مثلَ الشهيدِ بلا جرمٍ وأوزارِ
" طاف الصافي مدناً ودولاً عديدة منفياً مطارداً من أنظمة متتابعة تسلطت على حكم البلاد ورفعت الشعارات الكاذبة لتخدير عقول أبناء الشعب العراقي وساهمت في تثبيت أقدام المحتلين والدخلاء،اكثر من خمسين عاماً قضاها بعيدا عن العراق تطلب رأسه جميع الحكومات، وتهاجم قصائده كل الحكومات."
وهكذا فقدكان الصافی شریداً من كید حكام الجور الضالعین فی ركاب الاستعمار لرفضه وجود المحتلین الأجانب لبلاده وكان الصافی یكن كرهاً شديداً للإنجلیز بسبب جرائمهم فی العراق والدول العربیة حیث یقول:
أحاربُ جیشَ الإنجلیزِ لأننی وقفتُ علی نصرِ الحقیقةِ مِخْذَمي
أحاربُهم حربی لكلِّ رذیلةٍ إلی کلِّ شیطانٍ إلی کل أرقمِ
أخاف إذا ماتوا تموتُ أبالیسٌ فأبقی بلا لعني لهم نصفَ مسلمِ
تحاربُهم روحي وکفي ومنطقي وإن همْ نووا قتلي یحاربْهم دمي!
ويبدو واضحاً من تلك الأبيات مدى الكره والبغض اللذين كان الشاعر يضمرهما للإنجليز ؛فهو يعتبرهم رذيلة ورجساً على الارض، بل هم الشيطان نفسه، وهم يحملون صفة الغدر كما يحملها الثعبان في أسوء أنواعه.
وليت شعري اين ذهبت هذه اللهجة المتفجرة كراهية وبغضاً عنا ونحن ننوء تحت الإحتلالين الأمريكي والبريطاني وشتى أنواع الإحتلال الأخرى،فهاهو ذا التاريخ يعيد نفسه مرة أخرى،ولكننا في هذه المرة نأينا عن نهج أسلافنا فإذا بنا نرتمي في أحضان المستعمرين الجدد القدامى،وإذا بالاستعمار الذي كان بالأمس رجساً وعدواً لله ولرسوله وللإسلام يتحول إلى صديق حميم، نصافحه بحرارة، ونتحالف معه،ونتبادل معه القبلات! متصورين - ويا لسذاجة هذا التصور!- انه سيحل كل مشاكلنا،وسيهب لنا الحرية والديمقراطية المزعومتين،وسيحول بلادنا إلى قبلة للديمقراطية في العالم! وإلى جنة يقصدها السالكون، ونحن لا نعلم – وربما رمينا أنفسنا بالجهل وعدم العلم- أنه السبب الأول والأخير في كل المصائب والكوارث التي نعاني منها وسنطل نعاني منها طالما لازمتنا تلك الأحلام والتصورات المعسولة !
وهكذا فقد نذرالصافي نفسه لمقارعة المستعمرين منذ سنواته البكر؛ فهو من الممهدين لثورة العشرين في العراق بحيث كان بيته، في مدينة النجف الأشرف مسقط رأسه، مقراً للنضال ومأوى للمناضلين يلهب فيهم ويؤجج سنا الثورة شعراً وفعلاً. وبعد أفول الثورة نصبت له الأعواد لشنقه، فأدركه الخبر، فعاش حياة التجوال والاغتراب؛ يفر من مدينة لأخرى، ومن بلد لآخر. فصارت حياته سفراً في سفر، يعاقر المرض والفقر ويمجهما شعراً انطوى على كلّ روائع الشعر وتحف الأدب والفن عبر أسلوب واءم فيه الشاعر بين الشكل والمضمون وبين القوالب الكلاسيكية والمضامين الحديثة.
لقد كان الصافي مطارداً من الإنجليز، فحط الرحال، بعد طول غياب، في أرض لبنان، ليناصب الفرنسيين العداء الذين قرروا إبعاد صوته الذي كان يتسلل إليهم من بين الأصوات كفورة دم ولمعة نجم في سماء لا تكدرها الغيوم. فكان لهم ما أرادوا وله ما أراد :
سُجنت وقد مرتْ ثلاثون حجة ً من العمرِ فيها للـسجونِ تشـوّقْتُ
سعى "دعبلٌ" للسجنِ طولَ حياتِه فخابَ، وفي المسعى لسجني توَفّقْتُ
مرّت بالصافي السنون، وحياته سجال بين المرض والمنون. بيد أنّ النضال كان يهبه أسباب الحياة، ويُلبس خصومه عوامل الخواء،وكانت لعناته منصبة على بريطانيا أم الفساد، والسبب الرئيس وراء كل المشاكل التي نعاني منها:
خسئتْ إنكـلترا واللهُ أعـمى مُـقلتــيْها
قبرُها في كـلّ أرضٍ حفـرتْه بــيديـْها
سجنتني دون ذنــبٍ غير لعني أبــويْها
أمّنت حربي، وسجني يعلنُ الحربَ عليها!
ترى ماذا كان شاعرنا الصافي ليقول لو كانت حياته امتدت الى هذا الزمن الإنجلو-امريكي،الزمن الذي اصبحت فيه القوى الإستعمارية الكبرى صديقة للمسلمين في ليلة وضحاها! ومن العجب أن (بعض المسلمين)الذين كانوا يدعون حتى فترة قريبة أن تلك القوى هي عدوة الشعوب، والعدو الأول واللدود للإسلام والمسلمين نراهم اليوم وقد تخلوا ببساطة عن شعاراتهم السابقة ليرتموا في أحضان تلك القوى حتى النخاع طالبين منها حل مشاكلهم، وتقديم معطياتهم وإنجازاتهم في مجال الحرية والديمقراطية، فرحمك الله ياشاعرنا الصافي،ولقد أنعم الله عليك إذ لم يمد زمانك إلى هذا الزمن، إذن لكان الكمد والغيظ كافياً لرحيلك من هذه الحياة،لا تلك الرصاصة الطائشة التي أصابتك في لبنان!
ترک الصافي النجفي عدّة مجموعات شعریة منها: «دیوان الأمواج» 1932م؛ «أشعّة ملوّنة » 1938؛ «الأغوار» 1944؛ «التیّار» 1946؛ «ألحان اللهیب» 1948؛ «الهواجس» 1949؛ «شرر» 1952؛ و«المجموعة الکاملة لأشعار أحمد الصافي النجفي » 1978م.
خصائص شعره
يُعَدّ الشاعر أحمد الصافي النجفي بسيرته الشعرية والنضالية قيمة تراثية تستحق التأمل والانبهار في كل حين، وصفه كبير النقاد وعلم المبدعين عباس محمود العقاد بقوله: "الصافي أكبر شعراء العربية".
"كما قالت الأديبة المشهورة " مي زيادة " الصافي النجفي شاعر كبير دون منازع يعيد أمجاد الشعر العباسي إلى الأدب العربي المعاصر"
|