رد: التربيه والتعليم -في نهج البلاغة
تابع للوصله السابقه
أما جون لوك (1632-1704م) (فقد أعلن بهدوء أن جميع أنواع المعرفة تأتينا من التجارب عن طريق حواسنا، وأن لا شيء في العقل سوى ما تنقله له الحواس) (43) في حين أن (عمانوئيل كانت) جمع بين العقل والتجربة في الحصول على المعرفة وكان يقول: (إن التجربة ليست الميدان الوحيد التي تحدد فهمنا، لذلك فهي لا تقدم لنا إطلاقاً حقائق عامة، وبذلك فهي تثير عقلنا المهتم بهذا النوع من المعرفة بدل أن تقنعه وترضيه) (44).
وخرج (هنري برجسون) (ولد سنة 1859م) عما اعتبره (كانت) مصدراً للمعرفة، وقال بأن: (العقل ليس هو الأداة الصالحة لإدراك الحياة، لأن هذا مطلب فوق مقدوره.. فالعقل والحواس آلات للتجزئة، والغاية منهما تيسير الحياة لا تصوير الوجود أي أنها تتناول الوجود في ظاهره، ولكنها لا تنفذ إلى باطنه. ولما كانت المعرفة الحقيقية هي التي تتمشى مع الوجود في تحوله، وتغلغل في بواطن الأشياء وتحسها إحساساً مباشراً كما يحس الحمل الوديع وجوب الفرار من غائلة الذئاب، فالبصيرة وحدها هي الأداة الصالحة لذلك النوع من المعرفة المباشرة لأنها حاسة الحياة التي تنقل إلينا الوحدة الحيوية التي تربط أجزاء الوجود) (45).
أين كان موقع الإمام علي (عليه السلام) من هذه الآراء؟
إن الإمام (عليه السلام) يعتبر أن مبادئ الوجود ثلاثة: الله والروح والمادة، وعليه فطرق المعرفة تتعدد بتعدد الموجودات الثلاثة. فبالحواس ندرك الظواهر الخارجية والجزئيات، إلا أنها لا تصلح للرؤية الحقيقية لأنها كاذبة كما سبق في علمنا فلابدّ من إثباتها بالتجربة لإصلاح ما ينجم عنها من خطأ في الإدراك، لأن (في التجارب علم مستأنف) (46).
أما العقل، فهو لإدراك الكليات وما وراء الطبيعة، وقد سبق في علمنا أنه (عليه السلام) استدل على وجود الله بالنظر في مخلوقاته وما فيها من نظام محكم وتدبير متقن، ومعنى هذا أنه يؤمن بالعقل الذي يدرك ما وراء الكون بالاستنتاج والانتقال من المعلوم إلى المجهول.
أما إذا عجزت الحواس والعقل عن إدراك ما يمكن وراء هذه الظواهر الحسية ـ فلا سبيل أمامنا سوى القرآن أو الوحي، نستعين به لكشف ما غاب عنا، يقول إخوان الصفاء: (إن الوحي هو أنباء عن أمور غائبة عن الحواس، يقدح في نفس الإنسان من غير قصد منه ولا تكلف) (47). إلا أن الوحي الذي يعنيه أخوان الصفاء، ليس كما صرّح به الإمام (عليه السلام) إنما هو أقرب إلى الحدس الصوفي القائم على الكشف والذوق. فهل يعتبر هذا الحدث الصوفي طريقاً آخر للإدراك يمكن الركون إليه كما هو الحال عند المتصوفة؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال، نوضح أن هناك فكرتين تتحدثان عن علاقة الله بالعالم. الأولى، و(يصح أن نسميها بالاثنينّية، وهي تعتقد في الله أنه مستقل عن الخلق يشرف عليه من فوق، ويمد كل مخلوق بإمداداته، ويدير نظام الكون من أصغره إلى أكبره، وهو فوق الأرض، وفوق السماء وفوق كل شيء. وإن في الكون موجودين متميزين عن بعضهما كل التمييز، مخلوق وخالق، ومدبَّر ومدبِّر، ومحكوم وحاكم. ووسيلة الإنسان في إدراك الله حسب هذه الفكرة هو العلم وقضايا المنطق.
أما الفكرة الثانية، وهي الواحدية، أو بعبارة أخرى، وحدة الوجود، ترى أن الله والخلق واحد، والحاكم والمحكوم شيء واحد، كما قال الحلاج:
أنا مــــن أهـوى ومن أهوى أنا***نحـــــن روحـــــان حللـــنا بدنا
فـــإذا أبصــــرته أبصــــــرتني***وإذا أبصـــرتني أبصرتـنا(48)
وإدراك الله هنا، يتم بالتروّض والكشف.
وما ذكره الإمام (عليه السلام) ينفي عن الله الحلول والاتحاد كما سبق وأشرنا إليه في حينه، ولا يقول بوحدة الوجود، بل يميز بين الخالق والمخلوق، والرب والمربوب، ويؤمن بأن الإسلام يضع الإنسان أمام خالقه دون حجاب أو ترجمان أو وساطات تشفع له عند الله كما جاء في القول: (لم يجعل بينه وبينك من يحجبك عنه، ولم يلجئك إلى من يشفع لك إليه) (49).
ثم إنه يرفع من مكانة العقل ويعتبره المظلة الواقية من الخطأ في الإدراك، علماً بأن جميع النفوس قد فطرت على الإيمان بوجود الله، إلا تلك التي انحرفت عن فطرتها لسبب من التربية أو البيئة.
إذا أخذنا جميع هذه الأمور بعين الاعتبار، أمكننا الإجابة عن السؤال السابق بأن الإمام (عليه السلام) لم يأخذ بالحدس الصوفي كمصدر للمعرفة، ما دام العلم بالله حاصل بالفطرة والنظر العقلي، دون الوصول إلى تلك الحالة الخاصة التي يبلغها الإنسان بالوجد والكشف حيث يدرك عندها الله إدراكاً مباشراً. وما أشبه هذه التجربة العقلية التي يدعو إليها هذا الكتاب بتجربة (برغسون) التي تغلغل في صميم الواقع وتغوص في أعماقه وتتصل به اتصالاً مباشراً من غير واسطة تحول بين العارف والمعروف.
3ـ التفكير
التفكير بمعناه الواسع (اصطلاح عام يشمل كل أنواع النشاط الرمزي فيشمل الاستدلال والتخيل، وتكوين المعاني الكلية والابتكار، ويستخدم التفكير بديلات للأشياء الحقيقية والمواقف الواقعية، أي أنه يستخدم رموزاً تقوم مقام الأشياء أو الظروف. والرمز هو أي شيء ـ فكرة، معنى أو صورة يقوم مقام شيء آخر، فنستجيب له بنفس الأسلوب الذي نستجيب به للشيء نفسه) (50).
إن عملية التفكير ترجع إلى التفاعل بين العوامل العضوية أو البيولوجية المتمثلة بالجهاز العصبي المعقد، والعوامل الاجتماعية المتمثلة بالمؤثرات الاجتماعية المختلفة. فهو إذن عملية بيولوجية اجتماعية عن طريقه توصل الإنسان إلى بناء حضارة عظيمة تزخر بالتقدم العلمي والتنظيم الاجتماعي.
والتفكير ضرورة تربوية هامة يعتمد عليه الإنسان في تفاعله مع البيئة التي يعيش فيها، فهو في صراع دائم مع الحياة للحفاظ على استمرارية وجوده كما أنه محتاج، لكي يدافع عن نفسه ويؤمن حاجياته ويزيل الصعوبات والمشكلات التي تعترض طريقه، إلى أن يفكر ويختار نسب الحلول الملائمة. لذلك (يخطئ إذن من يحسب الإنسان آلة صماء في يد القوانين المادية. إنما هو كائن مدرك، حر الإرادة، قادر على اختيار سلوك معين، والاختيار خلق وإنشاء، فليس الإنسان رتيباً في حياته كالحيوان المحدود بغرائزه) (51). كما قول برغسون.
وهو في محاولته حل مشاكله، إنما يستعين على ذلك بالمحاولة والخطأ والتجربة والاختيار والابتكار والإبداع، لذلك كان التفكير نشاط ديناميكي هادف. ولا يعني هذا أن العقل لا يفكر إلا إذا اعترضته المشكلات الواقعية. فهو في نشاط مستمر، في حالة اليقظة أو الغفلة وما أحلام اليقظة إلا (استجابات بديلة للاستجابات الواقعية يتخذها الفرد عندما يفشل في أن يستجيب استجابات واقعية لما يواجهه من مثيرات فيلجأ إلى أوهامه يحقق فيها ما عجز عن تحقيقه في عالمه الواقعي، وهكذا نستطيع أن نعتبر الأحلام إحدى صور التفكير الذاتي) (52).
ثم إن ارتباط التفكير بالعمل يساعد الفرد على تحقيق آماله والوصول إلى غاياته. وكلما ارتفع مستوى الإنسان الفكري، اتجه بصورة أفضل نحو إحلال الأعمال بالأفكار أي يختبر صحة ما يصل إليه بصورة عقلية قبل أن يقوم بعمل معين، ويصبح التفكير بديلاً للعمل، وذلك لفاعليته واقتصاديته. لهذا كانت نتيجة التفكير هي الاقتصاد في الوقت والمجهود، وتوفير فرص أكبر للحياة والبقاء.
أما إذا لم يكن للتفكير أثر في زيادة كفايتنا العملية وتوسيع معرفتنا بأنفسنا وبالعالم الذي نعيشه فيه، وإذا لم يكن مساعداً على توفير الوقت والجهد، كان تفكيراً ناقصاً ومختلاً، لأن (الأفكار تبقى ناقصة إذا ما ظلت مجرد فكار، وأن خير ما يقال عنها أنها مؤقتة من قبيل الاقتراحات والدلالات. فهي أساليب وجوه لمعالجة أوضاع الخبرة، وإذا لم تطبق في مثل هذه الأوضاع، وبقيت ناقصة في معناها وواقعيتها، فالتطبيق وحده هو الذي يمتحنها، والامتحان وحده هو الذي يكسوها رداء الحقيقة، ويكسبها كمال المعنى. أما إذا بقيت الأفكار من غير استعمال فإنها تجنح إلى الانعزال وتكوين عالم خاص بها) (53). وإذا كانت للخبرة أهميتها في عملية التفكير فإنه لا سبيل إلى وجود خبرة ذات معنى، ودون أن يكون فيها عنصر من التفكير الذي هو (التعبير الصريح عن عنصر الذكاء في خبرتنا) (54).
(59).
يتبع
|