عرض مشاركة واحدة
قديم 12-05-09, 01:06 AM   #2
 
الصورة الرمزية حسين الحمداني

حسين الحمداني
هيئة دبلوماسية

رقم العضوية : 11600
تاريخ التسجيل : Sep 2008
عدد المشاركات : 5,648
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ حسين الحمداني
مشاركة رد: الايقاعية الشعرية لديوان ابي القاسم الشابي


"حديث المقبرة" ص115

و قسم كان يمثل البديل الذي يريده الشاعر لهذا الجسد ( غضارة الشباب، سعادة التلاحم مع عناصر طبيعية، الراحة المتوسطة بين ألمين ،آلام الجسد بصفتها وسيلة للتطهير و بلوغ الخلود)

أنت يا قلبي قلب، انضجته الزفرات

أنت ليل معتم، تندب فيه الباكيات

أنت كهف، مظلم، تأوي اليه البائسات

انت صرح، شاده الحب على نهر الحياة

لبنات الشعر... لكن قوضته الحادثات

"الى قلبي التائه" ص 80

إن الدراسة النفسية لشعر أبي القاسم الشابي تجعل من جسده قيثارة شعره فهذا الجسد المثقل بالمرض و الممزق بفورة الشباب من جهة و براثين العلل من الجهة الأخرى هو الذي يصدر هذه الأصوات الشعرية فتكون تارة رهيبة يصبغها الأنين و طورا صارخة دافعة للتجاوز في سماء الكونية الجسدية و الكونية الشعرية) و تفضي دراسة علاقة الجسد بالإلهام الشعري إلى أن الألم يصير مدرسة للجسد و بوابة لمعرفة جديدة من جهة و من جهة أخرى فإن الشاعر في سعيه للتعويض عن ذلك النقصان و هو المطلق و كأنه يجعل من جسده الضعيف نايا يعزف ألحانا خالدة و لهذا فالعلاقة مع الجسد تتبع مرحلية ثلاثية، التعبير المباشر أو الواعي عن الألم، البحث عن الراحة من خلال إيجاد حقل لغوي يمثل حالة من السعادة و الحبور ينسينا المنطقة المؤلمة التي انطلقنا منها و أخيرا الاستعاضة عن الضعف الجسدي بحقل لغوي يختلف عن الثاني و ان كان الثاني يمهد له، عالم من القوة و تجاوز الذات عالم من الكلمات المذكرة ( الرعود، البروق، المجد، الفجر، العز...)

ان الحساسية الشعرية لدى أبي القاسم الشابي تتجلى ايضا من خلال تلك المحاكاة للطبيعة على أساس من المشاركة الكونية التي تربط الكائنات فيجتمع الشتاء مع السبات الى الخريف مع الركود و الجمود و الموت و تظهر مفردات الظلام و العجز فالخوف لتخلق جوا من العداوة و التفكيك بين العناصر لتتظافر ضد الشاعر و شعوره بالغربة و اللاتفهّم ثم ياتي الربيع فتتحرر الكائنات و تتزاوج و تتكاثر و تعيده الى الطفولة مهد السلام البعيد الذي يفتقده جسده المريض و روحه الممزقة فتلتئم جراحه و تطفئ حرارتها بندى الفجر الوليد.

و لكن الزمن الجسدي ما يفتأ ان يأخذ منعرجا آخر تماما فتغريه المكابدة الشعرية بولوج قبر الموت و ليس ذلك يأسا كما يذكر الشاعر احيانا و لكنه دفع بالمعرفة الجسدية حتى اقصاها و استغراق في الألم حتى معرفة منتهاه و قد كان موت والده بالنسبة لروحه المرهفة هزة عنيفة أرغمته على التفكير في الموت و محاولة ولوج هذا العالم فكرا و شعرا فكان حديث المقبرة و هو شعر فلسفي يروم اغوار الممكن السحيقة و كذلك قصيدة الى الله التي تمثل محاورة لما هو سماوي وجودي في سمة انسانية شمولية.

يعمل الطابع الإنصهاري للحظة الكتابة على صياغة الترابط الغنائي بين الأصوات اللغوية

و خلق الجدل بين الأصوات القوية و الضعيفة، الغليظة و الرقيقة، المرتفعة و المنخفضة، المتجاذبة

و المتنافرة.

فالترابط بين هذه الأوصاف المختلفة هو الذي يغني القصيدة و يشحن الجو الشعري على أساس من الانتظام الداخلي للغة.

لقد اهتم دارسو التحليل الإيقاعي Rythmanalyse بالنصوص الشعرية أساسا و حاولوا أن ينفذوا إلى علم نفس الزمان معتمدين مجلوبات الفيزياء المعاصرة فالقصيدة لا تكون حساسة عبر الإيقاعات فحسب بل إن للكلمات شحنة و قوة تجعل لها تأثيرا خاصا في الحقل اللغوي الذي تعمل فيه و كما أن الفيزياء ترتكز على مفهوم المادة و الإشعاع المتموج و تحول كل منهما إلى الآخر و تناظرهما فالمادة بمزاياها التموجية و الإيقاعية تتحول إلى إشعاع في حالة من حالاتها و الإيقاع هو أساس دينامية المادة و النفس التي تصهر اللغة شعرا و لهذا يقول أبو القاسم الشابي بنظرية العدم و الدثور التي تتحول فيها الروح إلى ضوء يلامس الأفاق السماوية فالكائن الحالم في إعادة صياغته للعالم من حوله يكون قد مرّ خلال الحالة الشعرية بما يمر به النائم من حالات الموت المستنبطة و التي تجعل من الذاكرة قماشا تملؤه الفتوق و هي الصور التي لا تحسن الذاكرة الواعية استبقاءها و تثبيتها في الوعي. إن كل ما ينطق به الشعر ينطق بلغة الحس و إن كان مكتوبا بلغة الفكر لأن له أصولا في الغرائز الغامضة فكل ما تعبر عنه الكلمات ينبغي أن تكون له صورة عقلية في عالم المادة و هذا ما يجعل الكلمات مفردة كانت أو جمعا، مؤنثة كانت أو مذكرة تحدث في النسب تموجات تختلف من شخص لأخر حسب الجنس و حسب الاستعداد الشعري.

إن الشعر ليس سوى حديقة تتجمع فيها كل جماليات العالم سواء كان جمالها جمال الصورة المادية أو المعنوية أو الإيقاعية و هذا ما جعل بودلير و رامبو يتحدثان عن جمال القبح و ما تفعله خمياء اللغة من إعادة تشكيل للكلمات و الصور حتى القبيحة منها و إضفاء أبعاد جمالية عليها لم تكن موجودة قبل صياغة القصيدة.

إن التلازم بين الشعرية و الزمنية ليس مجال أي شك لأن الزمان يتحكم بكل شيء من جهة و لأن أجمل صياغة للزمن و إعادة تشكيل له لا تتم إلا عبر الشعر حين نصهر كل المعطيات الزمنية من خلال اللغة الشعرية و هذا ما تقوم به الذات الشاعرة بما لها من خصائص تختلف عن النشر العاديين ففيها تتعايش الطفولة و الحياة و الموت و الأزل و الأبد و الفناء و الخلود لأنها منفتحة على عوالم الحقيقة التي لا يشف عن إدراكها كل الناس فهذا التداخل بين عالم الحلم و الواقع هو الذي يعيد صياغة اللغة و يتحكم بمستقبلها على المدى البعيد مفككا إياها إلى نوتات متدرجة من الأصوات و الروائح و المذاقات و الأبعاد عبر ميتافيزيقا الليل الغريبة.



إن عالم الطفولة بالنسبة للشابي هو عالم الألفة بعكس عالم الواقع الذي هو عالم الغربة و الفرق بين هذين العالمين بكل بساطة و بكل تعقيد فرق في خصوصيات الزمن فبقدرما يكون الزمن ممتدا، شاسعا، لا زمنيا تكون راحة الذات الشاعرة و سعادة الروح التي من طبعها اللاتحديد و الخلود و بقدر ما يكون الزمن إنسانيا ، دنيويا محدودا يكون اختناق الشاعر و عزلته ، إن أصل كل شيء معنوي هو بالضرورة فيزيائي و ما يفعله الشعر هو إقدارنا على التنفس العلاجي من خلال أصوات اللغة المتعددة بل إعادتنا إلى تنفس الجنين في بطن أمه كدليل على جنينية الوعي الإنساني و البدء من البداية حيث اللامكان و اللازمان موطن الروح قبل أن تدخل سجن الجسد -الزمني.

يعتبر أبو القاسم الشابي العدم أغنى قيمة من الوجود في الحياة على مستوى الشعرية لأنه يكون جسر تحقق الذات الشاعرة فالموت في نظره ليس نهاية الحياة بمعناها المادي و لكنه البعد الذي يأخذ فيه الزمن مساحته القصوى فالحياة و إن تركبت من حيوات بشرية غير محدودة فإنها تبقى قاصرة بذاتها مضمحلة بشروطها الزمنية أما الموت حيث لا زمن يخضع لشروط الأرض و الجاذبية تجد الذات الشاعرة ما تفتقده من أساس للحرية فالمكان و الزمان هما أيضا من حدود الحرية.


منقول


حسين الحمداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس