عرض مشاركة واحدة
قديم 22-04-09, 01:59 PM   #1
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
حكايات عن الشيخ متولى الشعراوى


(١)
عن قرب.. حكايات مع الشيخ الشعراوى )1 ـ ٤)

يرويها محمد بدر



سألنى فضيلة الشيخ الشعراوى ونحن جلوس فى شقته بحى الحسين بالقاهرة: عن أى العُصاة تتحدث؟
وأجبته: عن بعض أصدقائى يا مولانا..أبقى على صداقتهم.. أم أقاطعهم.. أم ماذا أفعل؟
عاد الشيخ الشعراوى ليسألنى: هل تحبهم؟ فأجبت على الفور: نعم يا مولانا أحبهم.
أردف الشيخ قائلا: وهم يحبون المعصية.. أليس كذلك.. و إلا ما فعلوها، فأجبته مرة أخرى: نعم هذا صحيح، فتابع الشيخ قائلا: يا بنى لا يدع المرء ما يحب من أجل ما لا يحب.. ثم تابع الشيخ الشعراوى حديثه ليسألنى مرة أخرى: أى شعور ينتابك إذا رأيت أحدا وقد كُسرت ذراعه أو ساقه؟
أجبت مسرعا: يصعب علىّ وأتعاطف معه بدون شك، فلاحقنى الشيخ مردفا: وهل تنهض لمساعدته أجبته: نعم بطبيعة الحال يا مولانا.. استراح الشيخ فى جلسته ساندًا ظهره على المقعد، وقال بصوت خفيض: إذا كان هذا هو حالك مع مَنْ كُسرت ذراعه أو ساقه فما بالك بالذى كُسر أو شرخ دينه وأكمل الشيخ الشعراوى: إذا كان التعاطف على قدر المصاب فقدر المصيبة فى الدين أعظم وعلى أى حال فقد جربناها يا بنى كثيرا.. أحببناهم وأحببنا لهم الطاعة والحمد لله لم يخيب الله رجاءنا.. ثم عقب وكأنه يلقننى حكمته وأول دروسه: اكره المعصية يا بنى ولا تكره العاصى، فربما قضى الله أن يصبح فى يوم من الأيام وليا.. وحكى لى الشيخ قصة قاطع طريق صار وليا وعَلَماً من أعلام العارفين اسمه الفضيل.
ثم مد الشيخ بصره وكأنه يفتش عن المستقبل أو يستشرفه عند حافة الأفق وربما وراءها وقال بصوت خفيض مؤكدا حكمته التى ألقاها: كل داع إلى الله لا يجب أن يكره العصاة "لأن شغله مع هؤلاء".
(٢)
كان ذلك جزءا من اللقاء الأول مع فضيلة الشيخ الشعراوى، وما زالت تفاصيله حية فى وجدانى ولا تزال صورة ذلك المشهد الجليل محفورة فى قلبى..فاللحظات الجليلة عالية القيمة والمعنى فى حياة الإنسان تحفر سكناها فى أعماق الوجدان والقلب لا تستطيع ظلال الزمن أن تحجبها أو تواريها. حيث كانت عقارب الساعة تواصل حركتها الرتيبة المنتظمة وتتقدم نحو العاشرة من صباح يوم الأحد الخامس من أبريل للعام الواحد والثمانين بعد تسعمائة وألف بينما كنت أعبر ميدان سيدنا الحسين،
حيث الموعد الذى حدده لى فضيلة الشيخ سامى محمد متولى الشعراوى زمانًا فى تمام العاشرة كما أسلفنا ومكانًا عند المدخل رقم (٣) أمام الباب الأخضر، حيث يقيم الشيخ الجليل فى شقته فى الدور الثانى. لم تكن رؤية الشيخ الشعراوى فقط رغبة نقلتها إلى الشيخ سامى عقب لقاء طال بنا وامتد حواره لساعات، بل الحقيقة أنها كانت أمنية غالية رجوته أن يحققها لى حين التقيته فى مكتبه بمنطقة الجيزة الأزهرية، حيث كان يعمل آنذاك مديرا عاما للتعليم الثانوى..
فوعدنى وأوفى. وصلت قبل الموعد ببضع دقائق، وما هى إلا لحظات قليلة حتى لمحت الشيخ الشعراوى يدلف بسيارته ناحية المدخل، حيث كان يجلس فى المقعد الخلفى يرتدى زيه ولباسه التقليدى، جلبابا أبيض تعلوه عباءة من نفس اللون وطاقية كأنها تاج من زهرة الفل الأبيض تغطى رأسه.. والذى صار علامة مميزة وطرازًا فى الملبس أحبَّه وقلده كل المحبين للشيخ الشعراوى فى حياته وبعد انتقاله (عرفت فيما بعد أن هذا الزى خاص للشيخ رسم "باترونه" بدقة وعناية فائقة وقضى زمنا غير قليل فى تعليمه للحاج أحمد العشرى الخياط الخاص بالشيخ والمقيم بمدينة طنطا، والذى ظل حتى الآن متخصصا ومعلما لهذا الزى.
(٣)
وإذا كان الشىء بالشىء يُذكر فلعلى أذكر موقفا طريفا للشيخ الشعراوى والأسطى عبدالعظيم خنفس خياط دقادوس، الذى أعطاه الشيخ (٦) قطع قماش لتفصيلها جلابيب للشيخ.. وبعد الانتهاء من عملية التفصيل حضر الأسطى عبدالعظيم وألبس الشيخ أحدها من باب الاطمئنان وكانت المفاجأة:
الجلباب تنتهى أطرافه عند منتصف المسافة بين ركبة الشيخ وقدمه، وتكرر نفس المشهد فى باقى الجلابيب فإذا كلها فيها نفس العيب "قصيرة بشكل واضح وملحوظ"، فصاح الشيخ منفعلا:
- إيه ده يا عبدالعظيم..؟
رد الرجل بسرعة بديهة وقد تيقظت حواسه متجاوزا صدمة المفاجأة:
- إيه فيه إيه يا مولانا..؟
أردف الشيخ:
- فيه إيه..إيه..إنت مش شايف الهدوم كلها قصيّرة إزاى؟!
تابع الأسطى عبدالعظيم وكأن بديهيته لم تخذله ولم تفتر سرعتها:
- إهدا يا مولانا بس، وصمت لحظة وتابع.. اقعد..اقعد يا مولانا.
جلس الشيخ على كرسيه، وسار الرجل يصلح هندامه ويجذب الجلباب إلى أسفل حتى غطى قدم الشيخ وصاح مبتسمًا:
- إيه رأيك يا مولانا.. والتفت إلى الحاضرين متابعًا مش بالذمة كده عظمة.
فلاحقه الشيخ:
- عظمة إيه يا بنى.. وبعدين لما أقف يبقى الوضع إيه..؟!
وكانت بديهية الأسطى عبدالعظيم قد تجاوز إيقاعها سرعة الجدل ممزوجة بكثير من خفة الدم والظرف المصرى المعتاد فصاح قائلا:
- ومين قالك تقوم تقف.. الهدوم ديه بتاعة القعاد.
ضحك الشيخ من أعماقه سرورا وإعجابا بملكات الأسطى عبدالعظيم المتعددة من فهلوة.. وظرف وخفة دم، حيث كان باديًا أن ذلك كله ممزوج بالكثير من الحب والعشم فيما عرف عن الشيخ الشعراوى فى قريته عن سماحته وطيبة قلبه.. ورد الشيخ بأن ضاعف مكافأة الأسطى عبدالعظيم وقال له: خذ هذه الجلابيب وأعطها لمن يحتاجها وتقدر على ضبطها على مقاسه.
(٤)
ترجَّل الشيخ من سيارته وصعد السلم ولم تمض لحظات قليلة حتى حضر الشيخ سامى.. وجدنى فى انتظاره وصحبنى لمقابلة الشيخ.
صعدنا درجات السلم الشيخ سامى وأنا.. طرق الشيخ سامى جرس الباب وانتظر لبضع لحظات ثم فتح الباب بمفتاح كان معه فوجدت الشيخ جالسا على "كنبة" فى مواجهة الباب مباشرة وقد غيّر ملابسه.. جلباب منزلى وكان عارى الرأس.
كان باب الشقة يفتح مباشرة على صالة تبدو كما لو كانت مكونة فى الأصل من غرفتين- أزيل الجدار بينهما- بدا الجزء الأول صالوناً عليه كسوة من القماش والآخر أو امتداده عبارة عن جلسة عربية من "الشلت" على هيئة مربع ناقص ضلع.
دعانى الشيخ للجلوس بجواره بينما كان الشيخ سامى وكأنه يذكره قائلا: يا مولانا هذا "فلان" اسمع حكايته يا مولانا.. ثم دلف سامى إلى داخل الشقة ليعد إفطارا خفيفا للشيخ، ويبدو أن تلك كانت إحدى عادات سامى مع شيخه فى تلك الأيام (كانت أولى ملاحظاتى والتى بدت واضحة جلية مع الأيام أن سامى يتعامل مع الشيخ الشعراوى باعتباره شيخه وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معانٍ).
(٥)
كنت قد فقدت نفسى.. تاهت منى وضاعت وكأنها راحلة الأعرابى التى ضلت منه وتاهت وهى تحمل أثمن ما يملك وتركته يعانى قفر البيداء وفقرها وظلت رحلة التيه ممتدة من أواخر عام(٧٥) حتى التقيته ذات مساء فى منتصف مارس من عام (٨١) عند الملتزم فى بيت الله الحرام فى مكة المكرمة.
قوللى يا بنى: إيه اللى حصل..؟ قالها الشيخ وكان يجلس جلسته المعتادة وقد تربع وتشابكت يداه فى حجره وأصغى إلىَّ بكل حواسه وبلا مبالغة.
حكيت للشيخ حكايتى منذ أن أتممت حفظ القرآن وأنا فى الحادية عشرة من عمرى فى كُتاب الشيخ محمد صالح فى قريتى "أكوة الحصة" وبكل تفاصيلها، وعلى رأسها تفاصيل ما جرى لى فى رحلة التيه السالف ذكرها كما هى، فقد كنت أراه ولا أزال ومن ثم كان تعاملى معه على طول عشرتنا وحتى انتقاله إلى رحاب ربه باعتباره طبيبى وفى يقينى أيضا ولا يزال أن الشيخ الشعراوى هو أحد العارفين بالله أصحاب المقام الرفيع والمنزلة العالية، فالمعرفة بالله تقتضى القرب منه.. والقرب كان الشيخ الشعراوى رضوان الله عليه يقول فيه وعنه دائما "أن تعبد الله من جنس ما فرض فوق ما فرض" وأظنه يقينا كان يفعل. والعلاقة بين العارف والعالم أو التمايز والتمييز بينهما قضية جدلية شغلت الناس حتى من قبل بعثة النبى محمد- صلى الله عليه وسلم- وسوف تظل مثار جدل إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.. الشاهد فى حدود ما أفهم أن العلاقة بينهما تشبه إلى حد التطابق العلاقة بين الطبيب والصيدلى.
العارف بالله طبيب.. والعالم صيدلى.. والله أعلم.
قطع الحديث رنين الهاتف بجواره وفهمت من الحوار أن على الطرف الآخر واحدًا من أصحاب الشيخ بدا أنهم كانوا يبيتون ليلتهم معا، مجموعة من أصدقاء الشيخ فى شقة جاردن سيتى "وهى شقة فى (٢) ميدان الفسقية منحتها له الدولة يوم أن عُيِّن وزيرا للأوقاف، وجدير بالذكر أن الشيخ قد أصر على إعادتها مرة أخرى للدولة على الرغم من كل الضغوط الناعمة التى مارسها يعض المسؤولين كى لا يعيدها- ربما حتى لا تكون سابقة تلزم الآخرين بالحذو حذوه- وأصر الشيخ وأعاد شقة جاردن سيتى مرة أخرى للدولة فقد كان يرى أن الاحتفاظ بها ليس من حقه". وضع مولانا السماعة على الهاتف وسألنى سؤالا بدا مفاجئا لى.. مفاجأة تدعو إلى الدهشة والإعجاب..
قوللى يا بنى: أتذكر ما قلته وأنت أمام الملتزم؟
وأجبته.. فعقب قائلا:
والله يا بنى وعرفت تسأل.
خرجت من اللقاء الأول مع فضيلة الشيخ الشعراوى ومازالت أحداثه وأحاديثه مشهدا ينبض بالحياة فى أعماقى وكلما استرجعته وما تلاه من أحداث ولقاءات وأحاديث خاصة وعامة منذ ذلك التاريخ وحتى انتقال الشيخ رضوان الله عليه إلى رحاب ربه.. كنت أفعل.. وأسترجع بحثا عن إجابة لسؤال كان ولا يزال يشغلنى:
لماذا أحدث هذا الرجل "وهو فرد على أى حال" كل هذا التأثير والذى فاق فى مداه وعمقه كل معاصريه من مؤسسات وراءها أجهزة دول.. وتنظيمات امتدت كتلا بشرية فى كثير من دول العالم الإسلامى..وغير الإسلامى.
لماذا فاق تأثيره فى جموع المسلمين وعليهم وفى شتى بقاع العالم الإسلامى بل العالم كله كل هذه المؤسسات والتنظيمات..؟!
ومازلت أذكر ذلك الجندى الباكستانى فى مدينة "دبى"- حيث كنت أحد المرافقين للشيخ- وكنا نتناوب على خدمة الشيخ الذى كان يعانى مرضا ألزمه الفراش طوال الرحلة.. والذى بدا مشهده على شاشات التليفزيون عندما طلب الشيخ محمد بن راشد نقله إلى المستشفى على الفور.. وبالفعل نقل الشيخ إلى المستشفى الأمريكى بدبى.. ما زلت أذكر مشهد ذلك الجندى الباكستانى والذى كان يعمل فى شرطة "دبى" عندما تقدم منى وأنا خارج من حجرة الشيخ وقال لى بلكنة عربية أقرب إلى الخليجية:
أريد أن أرى الشيخ الشعراوى.
اعتذرت له مع كل رجائى منه أن يقبل العذر لمرض الشيخ. فلمحت فيضًا من الدموع تتساقط من عينى الجندى بغزارة.. ظل واقفا وظللت.. وقد أخذنى المشهد ومرت لحظات صمت ربما امتدت لدقائق وكلانا واقف أمام الآخر "مأخوذ أنا بمشهد فيض دموعه الذى بدا مفاجئاً".. ثم همس لى الجندى الباكستانى بصوت خفيض بعد أن هدأت دموعه:
أقسم بالله لن أزعجه.. فقط كل رجائى أن تراه عينى.
ولم أملك أن أرد طلبه فأخذته من يده مسرعًا ودخلت به على الشيخ وهو على فراش مرضه.
ولعله مشهد أضيف إلى مشاهد أخرى مماثلة تكتمل بها صورة هذا الإمام الجليل فى قلوب وعيون كل محبيه.. مشهد ذلك الجندى وهو يهم بالخروج من غرفة الشيخ دون أن ينطق بكلمة وملامح السعادة تملأ صفحة وجهه وتتصدرها بعد أن تحققت أمنيته الغالية التى همس بها إلىَّ:
فقط أريد أن أرى الشيخ الشعراوى


جريدة المصرى اليوم
13/4/2009


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس