رد: الدكتور مصطفى الفقى وهؤلاء
لـويـس عوض
بقلم د.مصطفى الفقى ٤/ ١٢/ ٢٠٠٨
إنه ذلك المفكر المصرى الذى مضى على درب الكبار من «العقاد» إلى «طه حسين» إلى «سلامة موسى»، ولعله يتميز بانتصاره لقضايا الإنسان ودفاعه عن الحريات، وقدرته الباهرة على استخدام هامش الحرية المتاح فى كل العصور.
وقد ربطتنى بهذا المفكر العظيم –ابن المنيا عروس الصعيد- صلاتٌ مستمرة على امتداد الخمسة والعشرين عامًا الأخيرة من حياته، بل لقد عرفته قبل ذلك عندما كنت رئيسًا لاتحاد طلاب كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، ودعوته لكى يحضر مهرجان «الشعر والزجل» فى يوم ثقافى بالكلية،
وأذكر أنه قال لأحد الشعراء الشباب الذى كان يملك لغةً زاعقة لتبرير بعض المواقف السياسية فى الستينيات من القرن الماضى، قال له «لويس عوض»: يا بنى إنك تبدو كمن يستعدى «الاتحاد الاشتراكى» على الناس بلا تمييز!
وكانت المرحلة الثانية من علاقتى به، حين استقدمه الدكتور «أسامة الباز»، المشرف على تدريبنا بالمعهد الدبلوماسى فى نهايات ستينيات القرن، لكى يكون محدثنا حول القضايا الفكرية والسياسية، واستهوانى كثيرًا منذ ذلك الحين حديث ذلك المفكر الرصين وكتاباته العميقة فى صحيفة «الأهرام»، وهو يؤرخ للفكر السياسى المعاصر فى مصر، ويطرق أبوابًا لم يطرقها غيره، بدءًا من كتابه عن اللغة العربية، مرورًا برصده التاريخ الاجتماعى والثقافى لمصر الحديثة،
وصولاً إلى مقاله الشهير عن العائلة المالكة المصرية ولقائه الملكة «نازلى» - أم الملك «فاروق» - فى منفاها الاختيارى بالولايات المتحدة الأمريكية هى وبناتها و«رياض غالى» قبل رحيلهم جميعًا فى ظروف مأساوية متفاوتة بعد ذلك بسنواتٍ قليلة. إنه ذلك المفكر الشامخ الذى أطاح به الضباط الأحرار ضمن حركة التطهير فى الجامعات بعد قيام الثورة بعامين فقط، ولكن ظل أستاذ الأدب الإنجليزى طافيًا على سطح الحياة الثقافية خارج الجامعة، يحمل مصباح التنوير، يخترق به ظلام التخلف والتعصب والرجعية.
إنه «لويس عوض»، الذى زارنى فى «لندن» فى بداية السبعينيات ولاأزال أذكر طريقة تذوقه النبيذ «روزيه»، الذى كان يعشقه على مائدة طعامه، وأفكاره المضيئة وعقليته المتوهجة التى كانت تقذف بومضات ضوء يبهر الأبصار ويخطف الألباب ويأسر العقول. لقد قال لى يومًا فى أحد لقاءاتنا: إن نظام الرئيس «عبدالناصر» كان يبعث ببعض عيونه لمتابعة ما يجرى فى الكنائس، فقلت له: ألم يكن الأمر ذاته معمولاً به فى المساجد أيضًا!، عندئذٍ تدارك د. لويس وقال: إن «عبدالناصر» لم يكن طائفيًا ولكنه كان شموليًا.
كما لاأزال أتذكر مناقشاتى معه حول دور السيد «جمال الدين الأفغانى» ورأى «د. لويس عوض» فيه، باعتباره إيرانيًا يعمل لصالح الاستخبارات البريطانية ـ من وجهة نظره ـ والحديث الطويل الذى كان يدور بيننا حول تلك الشخصية الغامضة وتأثيرها فى الفكر الإسلامى الحديث، فما أكثر معارك الدكتور «لويس عوض»، وما أكثر خصومه أيضًا، شأن المفكرين الكبار الذين يثيرون الجدل ويحرضون على التفكير، ولقد كان ـ رحمه الله ـ شديد الوضوح والصراحة كامل الشفافية، ويكفى أن نراجع اعترافاته الصريحة فى مذكراته عن «سنوات التكوين»، التى تحدث فيها عن قريبته التى تحولت من المسيحية إلى الإسلام،
ووصفه الصادق لمشاعر العائلة تجاه ذلك الحدث المفجع لديهم، ثم إشارته إلى شعوره بأن أخاه الدكتور «رمسيس عوض» –وهو أستاذ جامعى مرموق فى تخصصه، أمد الله فى عمره - كان يشعر بأن شهرة أخيه «لويس» قد ظلمته وأضاعت منه عددًا من الفرص فى حياته الفكرية والعلمية، ولقد ناقشت د. «رمسيس» فى ذلك بعد رحيل شقيقه «د. لويس»، فبدا مشفقًا على أخيه الأكبر محبًا له عارفًا بفضله فى تواضع وبساطةٍ زائدين.
إنه «لويس عوض» ذلك العملاق الفكرى الذى ملأت زوجته منزلهما بالقطط والحيوانات الأليفة، ويبدو أنه كان يفرِّ من ذلك إلى عالمه الخاص فى سياحة ثقافية دائمة، أفادت الفكر والأدب العربيين على نحوٍ غير مسبوق، وعندما جاءنى الأديب الأستاذ «نسيم مجلى» - بعد رحيل المفكر الكبير بفترة وجيزة - ليصدر كتابه عن «لويس عوض ومعاركه الفكرية والأدبية» طالبًا منى كتابة مقدمته لم أتردد فى أن أفعل ذلك، لمعرفتى الدقيقة بالمفكر «لويس عوض» والأديب «نسيم مجلى» فى الوقت ذاته،
ولقد سعى إلىَّ الأستاذ «مجلى» بكتابٍ جديدٍ له منذ شهور عن «الدكتور بطرس بطرس غالى» ومعاركه السياسية، وقد كتبت مقدمته أيضًا، ودفعنا به إلى «دار الشروق» ليأخذ طريقه إلى حبر المطابع.
إننى لا أنسى أبدًا جلساتى المستمرة فى حجرة الدكتور «لويس عوض» بمستشفاه قبيل الرحيل، وهو يصارع ورمًا سرطانيًا فى المخ، ولكن الابتسامة لم تكن تفارقه، والحديث العذب لا يختفى من جلسته، وبريق الأمل ظل ينطلق من عينيه، مع أنه كان يودع الحياة مفكرًا بارزًا، ومصريًا رائعًا، وعلامةً فارقة فى حياتنا الأدبية والفكرية
بنت الشاطئ
بقلم د.مصطفى الفقى ١١/ ١٢/ ٢٠٠٨
لدى الأمم أسماءٌ تعتز بها، وفى الشعوب شخصيات تخلع عليها الجماهير ألقاباً يختصون بها ويتميزون عبر التاريخ بذكرها، لذلك كانت «بنت الشاطئ» هى الدكتورة «عائشة عبد الرحمن» مثلما كانت «باحثة البادية» هى «ملك حفنى ناصف» و«ذات النطاقين» هى «أسماء بنت أبى بكر» و«كوكب الشرق» هى «أم كلثوم»، والأمر ذاته فى عالم الرجال فعندنا «عميد الأدب العربى» هو «طه حسين» و«شاعر النيل» هو «حافظ إبراهيم» و«أمير الشعراء» هو «أحمد شوقى» و«شاعر القطرين» هو «خليل مطران» ..
نعود إلى «بنت الشاطئ» ابنة إقليم دمياط المنجب التى تألقت فى رحلتها العلمية وتميزت فى رؤيتها الثقافية، منذ أن التقت بأستاذها الشيخ «أمين الخولى» مبعوث الملك «فؤاد» إلى «برلين»، ذلك المفكر الكبير، الذى خرج من الأزهر الشريف إلى العالم الخارجى ضمن حركة «الابتعاث»، التى اعتمدت عليها مصر الحديثة فى مواصلة مسيرة عصر النهضة والتنوير، إنه رائد «الأمناء»، تلك الجماعة التى انتمت إلى فكره واعتنقت مبادئه،
ولقد ربطتنى بالدكتورة «عائشة عبد الرحمن» صلات مستمرة ليس أولها أنها والدة زميلة دراستى فى كلية الاقتصاد جامعة القاهرة الأستاذة «أديبة أمين الخولى» وليس آخرها لقاءاتى بالدكتورة «عائشة»، وحواراتى معها والاتصالات الهاتفية بيننا فى مناسبات مختلفة، فأنا لا أخفى إعجابى الشديد بلسانها العربى الفصيح، خصوصاً أننى ممن يشاركون فى الحفاوة باللغة المتميزة،
أما أسلوبها الذى يمكن التعرف عليه حتى لو احتجب اسم صاحبته فهو نموذج آخر فى الرصانة والجزالة والتألق، ولو لم يكن لـ«بنت الشاطىء» إلا كتابها الشهير عن زوجات النبى (صلى الله عليه وسلم) لكفاها ذلك وحده تميزاً وفخاراً، وسوف تبقى مقالاتها فى «الأهرام» فصولاً فكرية مستقلة يعود إليها المثقفون العرب، كلما عازتهم نسمات رقيقة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية،
ولن أنسى أبداً متابعتها لبعض ما كتبته أنا شخصياً رغم أننى أقع منها موقع التلميذ من الأستاذة ولكن بشاشتها وحفاوتها بجيلى كانت تعطينى زاداً من نور المحبة ورحيق الأمل، وعندما كنت سفيراً لبلادى فى «فيينا» كنت شديد الحرص على وجود زميلتى «أديبة الخولى» وزوجها النمساوى المسلم فى دار السفارة أثناء الاحتفال بجميع المناسبات المصرية والدينية، حيث ظل التواصل بيننا فى إطار ذكريات جامعة القاهرة والانتماء المشترك لفكر «بنت الشاطئ» ومدرسة «أمين الخولى»،
وعندما جاءنى العالم المصرى الراحل «أسامة أمين الخولى» ممثلاً لمصر فى أحد المؤتمرات العلمية فى «فيينا»، كان اهتمامى به كبيراً وحرصى على الاستماع إلى ما يقول عن أبيه الراحل وزوجة أبيه «بنت الشاطىء» أمراً لاحظه كل زملائى الذين شاركونى السعادة بتواجده بيننا لعدة أيام فى العاصمة النمساوية، وهو ينتمى إلى جيل من علماء مصر من أمثال «إبراهيم حلمى عبد الرحمن» و«مصطفى كمال طلبة» و«عبد الفتاح القصاص» و«محمد الحلفاوى» وقد كنت أعتبر الأخير عميداً للجالية المصرية فى «فيينا»،
وأعتز كثيراً بما كان يحكيه لى عن الذكريات العلمية لمصر فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى وأصدقاء عمره الذين تساقطوا على طريق رحلة العلم والعمل، ولقد استمر تواصلى أيضاً مع «بنت الشاطئ» من خلال علاقتى العائلية بزميلى بالسفارة المصرية فى لندن الأستاذ «رزق طعيمة» الذى كانت زوجته الفاضلة السيدة «عائشة» أختاً غير شقيقة لبعض أبناء الشيخ «أمين الخولى» فتجمعت لدى دائماً خيوط متشابكة عن تلك العائلة الثقافية المتميزة فى الأدب والعلم والفن الذى جسدته شخصية مثل واحدة من أبناء الشيخ «أمين الخولى» وأعنى بها الدكتورة «سمحة الخولى» (رحمها الله)،
إننى أحنى الرأس اليوم احتراماً لأسم «عائشة عبد الرحمن» وعطائها المتصل للثقافة العربية والفكر الإسلامى ودورها المرموق فى تاريخ الأدب الحديث، بل وأشرك معها عائلة أستاذها وزوجها الشيخ «أمين الخولى» الذى عاشت «بنت الشاطئ» على ذكراه بقية عمرها، تردد بين سطور كتاباتها شجن الأيام الجميلة ومظاهر الحب العميق، الذى حملته له وعاشت به وتعايشت معه.. لقد كان زمناً جميلاً احتفظت فيه الكلمة بجلالها والفكرة بعمقها والنظرة بموضوعيتها.. زمن الشوامخ من أمثال تلك السيدة الرائعة الأستاذة «بنت الشاطئ» أو الدكتورة «عائشة عبد الرحمن
|