أمسية الوداع
محمد الابن البكر للشهيد أبو سلمية قال: "في ذلك اليوم اصطحب أبي العائلة إلى البحر حيث لم أذهب معهم، ورجعوا من رحلتهم في وقت المساء حيث كانت لديهم رغبة في المكوث على البحر لمدَّة أطول، لكن أبي رفض ذلك خوفاً عليهم من قصف الزوارق الحربية، ومن ثم اجتمعنا مع بعضنا على مائدة العشاء في تمام الواحدة فجراً دون أن يقول أحدنا: ما هو ملفت للانتباه وبعدها ذهبنا إلى النوم".
وأضاف محمد أنه لم يلاحظ أي حركة غريبة في البيت أو اجتماع سري مع نشطاء، حيث إنَّ أهله كانوا نائمين في الطابق السفلي بينما هو كان نائماً في الطابق العلوي وعندما تم القصف، فإن الجهة التي كان ينام فيها كانت بعيدة في البداية عن الاستهداف، حيث تشبث بأحد الشبابيك، وشاء الله أن ينقذه مع أخيه عوض".
سعيد أبو سلمية أخو الدكتور نبيل، قال: "لقد كان أخي رحمه الله يتميز بالتواضع والعطف على الأطفال وخاصة المعاقين منهم نظراً لأن ابنته سمية معاقة (شلل نصفي)، فطبيعة عمله في المجال التعليمي كانت تجعله يحتك بالمعاقين الذين كان يعاملهم بصورة خاصة ولا يسخر من أي شخص ضعيف".
وأشار إلى أنه كانت هناك ثمة مظاهر توحي بأنه يُودِّعنا، ففي أيامه الأخيرة كان يخصص لكل أخ وأخت زيارة خاصة، مؤكداً أنه كان بالنسبة لآل أبو سلمية قاموسٌ من المعاني النبيلة ومساعدة الآخرين في وقت الشدة.
وختم حديثه بأن هذه الجريمة تعد مجزرة صهيونية مروّعة لا يوجد ما يبررها، سواء باستهداف نشطاء من "حماس" أو في إطار سلسلة العدوان على غزة لاسترجاع الجندي الأسير حسب حججهم الواهية.
الجيران لم يسلموا أيضاً
الوقوف على أطلال البيت المدمر كان له نكهة مريرة، حيث إنَّ البيوت التي تحدّه من اليمين والشمال قد تضرَّرت بشكل جزئي كبير وخاصة عائلتي سمور وعباس، حيث قال ماهر سمور وهو منهمك في إزالة كميات الركام التي تساقطت من بيته حيث يسكن معه ثلاثة من أخوته وعائلاتهم: "تلك الليلة كانت هادئة تماماً، فلم يكن هناك إشارات تهدد بخطر قادم، حيث قضيت أمسيتي مع أصدقائي حتى الساعة الحادية عشر في مكان على مقربة من بيتي وبعد عودتي وجدت الجميع نيام".
وأضاف سمور بصوت خافت: "لم أستيقظ إلاَّ على صوت الضربة الأولى التي اِعتقدت لحظتها أن القصف استهدف مدرسة الأرقم أو أيَّ مكان قريب، ولكن في الضربة الثانية تساقطت النوافذ والشبابيك والزجاج، كلنا شعرنا بذعر وفزع لا يمكن تصوره وخاصة الأطفال، ومن ثم وجدنا بيت جارنا الدكتور نبيل قد تم تدميره تماماً"، مشيراً إلى أن منزله لم يعد صالحاً للسكن مما أدَّى إلى نقل العائلة إلى بيوت الأقارب إلى حين إعادة ترميمه الذي على ما يبدو أنه سيكلف مبلغاً وقدره، خاصة أنه عاطل عن العمل والظروف الصعبة زادت عليه الهم الصاع صاعين، على حدِّ قوله.
وفي سؤاله عن العلاقة التي تربطه بجاره أبو سلمية قال: "بلا شك علاقة تقوم على الاحترام الشديد حيث إنَّ جارنا يتصف بالتقوى والأخلاق الحميدة، فبناته وأبناؤه يحفظون عدة أجزاء من كتاب الله، ودوما كنا نسمع هدى وإيمان وهنَّ يقمن بالتسميع لبعضهن".
الطفل محمود سمور كان يفرك عينيه من ذرات الغبار المبللة بالدموع حيث قال "كنت ألعب دوماً مع يحيى الذي كان يتميز بهدوئه وأدبه، والمرة الأخيرة التي لعبت فيها معه قبل استشهاده بيوم حيث لعبنا (الاستغماية) و(القلول)"، لم يستطع محمود أن يروي تفاصيل أكثر سوى أن يقول "حسبي الله ونعم الوكيل" تلك العبارة التي يثق الأطفال بأن الله سيسمعها منهم لأنه وحده، حسب اعتقادهم، من سينتقم لأصدقائهم الصغار.
قطة حسام الناجية
وفي البيت المقابل كانت الحاجة "أم محمد" عباس مستلقية على الفراش بعد خروجها لتوِّها من المستشفى إثر إصابتها في ساقها، حيث كانت تنام لسوء حظها ولحسن قدرها في تلك الليلة في الحجرة المقابلة تماماً لجارهم "أبو سلمية" فقالت: "كانت الطائرات تحلق في سماء غزة، ولحظة القصف شعرت أن بناء الحجرة انهال علي، وبصدق لم أكن أفكر بنفسي، بل كل ما كان يشغلني هو حفيدي حسام الذي ينام معي تحت النافذة مباشرة، وكانت المرة الأولى التي يأتي للمبيت عندنا، كنت أخشي من أن يصاب بمكروه، لدرجة أنه لم يكن لديَّ أمل بأن يعيش، ولكن الحمد لله ربنا قدر ولطف".
وأضافت بابتسامة امتنان إلى الله عز وجل "حبيبي حسام بمجرد أن أفاق من غيبوبته سأل عن قطته التي كانت تنام معه ولم تسلم هي الأخرى من صواريخهم".
وأشارت "أم محمد" أنها كانت معتادة على الذهاب مع زوجة الدكتور نبيل إلى المسجد لتلقي الدروس الدينية، حيث تعرف بسلوكها الراقي والملتزم والمتواضع في التعامل مع الآخرين، وقد كانت المرة الأخيرة التي التقتها فيها منذ ثلاثة أسابيع حيث دار بينهما حوار عادي، على حد قولها.
واستنكرت هذه الجارة الذريعة التي قصف بها الاحتلال الصهيوني آل سلمية وذلك فيما يتعلق بوجود القائد العسكري محمد الضيف في بيتهم قائلة: "حتى لو كان ذلك صحيحاً فهذا ليس بمبرر بأن يقوموا بجريمتهم في حق بيت سكني آمن فيه عدد كبير من الأطفال".
الأطفال المدنيون ما ذنبهم؟!
الطفل أنس مهنا كان ملفتاً للنظر بمشاعره المرهفة التي ذابت من الحزن على يحيى صديقه وصديق أطفال الحيِّ حيث قال بتلقائية من شأنها أنْ تفتح شهية البكاء: "ما توقعتش أنه يحيى يموت، لأنه الأطفال المدنيين ما الهم دخل، يجيى كان دايماً يركب معنا في باص المدرسة ويمسك المصحف ويحفظ، كان حافظ ثلاثة أجزاء، كان يحكي عن قصص الحسن والحسين، وكمان كان يتابع مباريات المونديال".
ووسط جمهرة الأطفال الذين أخذوا يتنافسون ليدلو كل منهم بدلوه فيما يتعلق بصفات يحيى أضاف أنس ببراءة ساحرة: "لما نكبر إن شاء الله راح نجاهد وننتصر، وحماس وفتح مع بعض راح ينتقموا لصديقنا يحيى وأهله".
منقول من موقع فلسطيني