عرض مشاركة واحدة
قديم 29-06-05, 11:34 PM   #2

نجم الليل22
نجم متالق بزهــرتنا

رقم العضوية : 1091
تاريخ التسجيل : Jul 2003
عدد المشاركات : 1,426
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ نجم الليل22

ويركز الدوري كثيراً على أهمية علوم الدين في تأسيس الحركة الفكرية والثقافية في العهد الأموي ويرى أن تلك العلوم ((من حديث وفقه وتفسير وما يتصل بها كالتاريخ فقد نهض بها العرب)). وعلى رغم أن هاجس الدوري الدائم هو إبراز العروبة والأصول العربية في منشأ ((علم الحديث والفقه والتفسير والتاريخ والعروض والقوافي)) أصاب كثيراً في ربط الكتابات التاريخية بالعوامل الدينية ودور الفقه في بلورة منهج في التفكير التاريخي والتفسير المنطقي والعملي لأخبار الأيام وحوادث الزمان. مع ذلك يعود للتعرض إلى دور الأتقياء والفقهاء في تشجيع الموالي على الثورة انطلاقاً من دوافع اسلامية انسانية، وكأنه يرى في مبدأ المساواة بين الشعوب والأقوام والقبائل ((نقيصة)) وليس فضيلة اسلامية. فهو لا يتردد من دافع ((قومي)) في اتهام ((الأتقياء والفقهاء)) الذين أيدوا ((الموالي في دعوتهم للمساواة بدون نظر إلى سر هذه الدعوة، وإليهم يعود الفضل كثيراً في تشجيعهم على الثورات المختلفة كثورة ابن الأشعث)). فالعروبة عند الدوري سابقة وهي ((إرث ثقافي متصل قبل الاسلام وبعده)).
لم تقتصر هذه النزعة ((القومية)) المبالغة في تأويل التاريخ على كتابات الدوري بل سبقتها وعاصرتها كتابات كثيرة أحدثت ضجيجاً كتلك التي أحدثتها تأويلات طه حسين للشعر الجاهلي عندما حاول أن يبرهن أن الشعر الجاهلي ليس جاهلياً بل كتب في العهد الأموي ومطلع العصر العباسي ونسب زوراً إلى شعراء الجاهلية لأسباب تتعلق بالسياسة ومعارضة شعراء العهود الاسلامية للسلطة. وحاول حسين من قراءة النصوص الشعرية أن يعمم تأويله الأبدي ويسحبه على الحوادث والأخبار التي سبقت تدوين التاريخ الاسلامي الأمر الذي جعله يشكك في الحقائق كلها وعلى مختلف مراتبها ومستوياتها.
يسخر روزنتال كثيراً من نزعة التأويل المذكورة ويشكك في موضوعيتها وعلميتها خصوصاً إذا وضعنا تلك المصادر الأدبية على محك الوثائق وعلم الأنساب. وحسب روزنتال ان ((أقدم نقش عربي باق، هو نقش امرئ القيس الذي يرجع إلى سنة 328م (...) كما أن نقشاً آخر هو نقش شراحيل، وهو يرجع إلى سنة 578م (...) )).
ويستنتج روزنتال نظرية مضادة لتلك التي تغالي في تأويل التاريخ وتفسيره مؤامراتياً لأن أخبار العرب قبل الاسلام ((لا يمكن أن تكون من مخترعات كاتب في بغداد أو دمشق في العصر الاسلامي)). إذ ((لا يوجد سبب يبرز الافتراض أن الأشعار وجدت أولاً، ثم اخترعت الأحداث لتلائم تلك الأشعار (...) فالنثر والشعر اللذان تتضمنهما هذه القصص وجدا سوية وكان يكمل كل منهما الآخر (...) ))ق د تكون هذه ((القصص دونت كتابة في العصر الجاهلي السابق للاسلام))، ربما نقلت هذه المادة عن طريق ((الانتقال الشفهي)) وبما ((كانت بعض مادتها قد دونت في بعض الأزمنة)) لذلك ((بدا المؤرخون مترددين في أخذ المادة التي اعتبروها تخص ميدان رجال اللغة والأدب)) على رغم أن ((فنونها وأشكالها لعبت فيما بعد دوراً مهماً في علم التاريخ الاسلامي)).
لا يعني استغراق الدوري في تأويل التاريخ بضغط من نزعته ((القومية)) أنه مناهض للقيم الاسلامية ودور الفقهاء في نشرها فهو منحاز لدور الاسلام التاريخي في ترسيم خطوط نهضة العرب وتحديد قواعد انطلاقهم وفتوحاتهم، لكن ((البوصلة)) التاريخية تضيع عندما يبدأ السجال ضد الآخر الاسلامي غير العربي فيسقط في تحليلات أيديولوجية وانتقائية لتأكيد نظرية المؤامرة على العرب أولاً ثم الاسلام ثانياً. مما يضعف منهجه الموضوعي في القراءة والتصحيح.
وفي حال استبعدنا الجانب ((القومي)) أو ((المؤامراتي)) في تفكير الدوري نجد أنه أصاب في الكثير من تحليلاته الاجتماعية وبعض الاستنتاجات السياسية خصوصاً عندما يربط تطور النظم الدستورية والترتيبات الإدارية بتطور الفقه وعلومه وانتشار مدارسه في أرجاء الدولة. كذلك عندما يربط تطور المفهوم الاجتماعي-الاقتصادي بتطور المفاهيم والتفاسير الفقهية. فهو يقرأ علوم الفقه استناداً إلى مراجعة اجتماعية اقتصادية للحياة العامة في فترات الخلافة الراشدة والأموية والعباسية، إذ يحسم موقفه من البداية ويرى أن الدساتير في مكتب الفقه ما هي ((إلا ما يقابل النظريات السياسية في الوقت الحاضر)). ثم يقول: (وينعكس أثر التطورات الاقتصادية في كتب الفقه، كما في كتابات الفقيه محمد بن الحسن الشيباني)). ويرى أن الشيباني في كتابه (الاكتساب في الرزق المستطاب) أكد على ((اكتساب المال بالعمل الحر)) ويفضل ذلك على ((أخذ العطاء من بيت المال)). وهو يحبذ جمع المال ((مخالفاً بذلك نظرة التقوى التقليدية، على أن يكون جمع المال بطرق أمينة)).
ويحدد الشيباني المكاسب بأربعة أنواع: الإجارة، والتجارة، والصناعة، والزراعة و((بذلك يعطينا أوجه النشاط الاقتصادي في هذا العصر)) إذ نحن نرى في كتابات الشيباني ((صورة للتطور الاقتصادي-الاجتماعي. نراه في إقبال العرب على زراعة الأرض، وهو تطور ينافي القيم القبلية الموروثة. ونراه في النشاط التجاري الذي أدى إلى ظهور طبقة متوسطة جديدة)). وهو أمر استدعى اهتمام الفقهاء ((فأدركوا قيمته وحاولوا وضع أسس ومقاييس فقهية تحد من تطرفه أحياناً)).
لا شك أن قراءة الدوري المنهجية لمادة التاريخ الاسلامي، على رغم ثغراتها، تشجع على إعادة النظر في الكثير من المفاهيم المغلوطة عن حوادث تاريخنا وتساعد على إعادة صوغ أخباره وفق منهج موضوعي يحاول التقاط أجزاء الماضي وتركيبها في صورة معاصرة أقرب إلى الواقعية. وتأتي محاولات الدوري في وقت أخذت حياتنا المعاصرة تضغط باتجاه معرفة المزيد عن ماضينا وهي معرفة كلما ازدادت تساعد على فهم الحاضر واستقراء مستقبلنا وتفكيك عبث بعض المؤرخين والمستشرقين بتراثنا.
المصدر : المفكرون العرب ومنهج كتابة التاريخ


نجم الليل22 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس