عرض مشاركة واحدة
قديم 04-05-05, 02:50 AM   #1
 
الصورة الرمزية حياة

حياة
المراقبة العامة

رقم العضوية : 540
تاريخ التسجيل : Dec 2002
عدد المشاركات : 16,580
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ حياة
مشكلة المثقف مع الدين


* زكي الميلاد

أن مشكلة المثقف مع الدين هي من أعمق المشكلات التي تكشف عن أزمة تكوين المثقف، وأزمة تشكيل الفكر والثقافة والعقل في العالم العربي والإسلامي. وقد أظهرت هذه المشكلة غربة المثقف عن الدين وهي من أفدح ما أصابه في بنيته الفكرية والثقافية ـ الغربة التي تفسر ما يعبر به عن رؤيته تجاه الدين. وبسهولة كبيرة نكتشف، من خلال شريحة واسعة من المثقفين، جهلهم العميق بالدين وهم يتحدثون عنه ويعطون رأيهم في مسائله وقضاياه. هذا الجهل لا يُبرر لهم ولا يُغتفر للمكانة الكبيرة التي احتلها الدين في الماضي، ويحتلها في واقعنا الراهن، لا سيما أنه هو الذي صنع هذه الأمة وأكسبها شخصية متميزة ومستقلة، بعد أن كانت مجموعة من القبائل المتفرقة والمتنازعة، وشكل لها حضارة يشهد لها التاريخ بإنجازاتها الحضارية في مجالات مختلفة من العلوم الأساسية والمتقدمة، وارتقت بالقيم والآداب والفضائل الإنسانية فكانت هذه القيم أكثر ما تميزت به من بين الحضارات الأخرى. هذا الدين الذي مثل أعظم تحول حضاري في تاريخ العالم والحضارة الإنسانية هو اليوم من الأمور المجهولة بين المثقفين في العالم العربي والإسلامي. الجهل الذي يقابله انفتاح اطلاع واسع على الفكر الأوروبي في مرجعياته الفلسفية والأدبية والاقتصادية والسياسية، وهي حقيقة من الصعب أن يخفيها المثقف العربي عن نفسه.
وقد تركت مشكلة المثقف مع الدين تداعيات حساسة وحادة في علاقته بالناس، حين أخذ يثير الشكوك، ويعبر عن أفكار ومفاهيم تصطدم بشكل صريح مع الدين، الأمر الذي تسبب في قطيعة عميقة ومستعصية بينه وبين الناس، أفقدته مكانته وتأثيره وحضوره، لهذا فالمثقف في العالم العربي لا يحظى بتأثير مهم على الناس ولا وزن حقيقياً له بينهم.
وهي المشكلة التي كرّست عزلة المثقف، وأجهضت مشروعه في التغيير الثقافي، وعطلت أهم أدواره في الحقل الاجتماعي، وهي مشكلة المثقف نفسه وليست مشكلة الناس، فهو الذي فتح على الناس هذه المشكلة وفجرها في الساحة.
ولقد بقيت نظرة المثقف مشوشة وملتبسة تجاه الدين، مع ما لديه من خبرة في التعامل مع أدوات المعرفة وتقنيات البحث ومناهج التفكير، ومع ذلك تجد من المثقفين مَن يخلط بين الإسلام وبين الديانات القديمة التي عرفتها بلاد الشرق، ويصل الخلط عند البعض حد المقاربة بين الإسلام والأساطير من خلال حقل الميثولوجيا الذي شهد اهتماماً واسعاً في الفترات الأخيرة، وزُجّ به في ميادين الفلسفة والثقافة والأدب والعلوم الإنسانية ... وهناك من المثقفين مَن حاول أن يسقط على قراءته للدين تجربة أوروبا مع المسيحية والكنيسة، وهي التجربة الماثلة أمام المثقف العربي والذي أشبع اطلاعاً عليها، وخلق منها أبرز إشكالياته المفهومية، التي منها إشكاليات العلم والدين، التقدم والدين، الحداثة والدين، العلمانية والدين، الدولة والدين، السياسة والدين، ... إلخ. وقد ظلت هذه الإشكاليات يعاد إنتاجها بفهم ملتبس وبرؤية مشوشة إلى هذا الوقت، ولا زال المثقف محكوماً بقدر كبير بإطار التفكير الأوروبي وبالتجربة الأوروبية، الأمر الذي لا يسمح له إلا أن يكون رؤية ملتبسة وجدلية تجاه الدين.
ومن النماذج أيضاً في علاقة المثقف بالدين، نموذج المثقف الذي حاول أن يعمل بمنهج الباحث الأكاديمي في قراءته للدين، فتعامل معه كظاهرة اجتماعية، أو فكرية، أو تاريخية، أو مركبة من هذه الأبعاد وأبعاد أخرى، كما يتعامل مع أي ظاهرة بشرية، حيث يجري عليها طرائق التوصيف والتفسير والتحليل والتفكيك والتركيب والنقد إلى غير ذلك من طرائق ومناهج، يشبه إلى حد كبير الطرائق التي تعامل بها بعض المستشرقين مع الدين في دراساتهم لحقل الإسلاميات. فالدين، حسب هذا المنهج، يمثل أحد الظواهر التي نشأت في الماضي وتركت أثراً نوعياً على حياة الناس في اتجاهات تفكيرهم، وأنماط علاقاتهم، ونظام القيم عندهم، ولا زال يحتفظ بتأثيره صعوداً وهبوطاً إلى هذا الوقت، من غير أن يميز هؤلاء أو يقتنعوا بأن الدين، في جوهره وأصالته ونصوصه، ليس ظاهرة بشرية، ولا ينبغي أن يقارن ويطابق بالظواهر التي هي من نتاج البشر، والفارق الأساسي هو في دراسة الدين تارة، وهذا له طرائقه الخاصة، وتارة أخرى دراسة سلوك الناس تجاه الدين وتأثيره عليهم، وهذا له طرائق أخرى تختلف.
إن مشكلة المثقف تكمن في عدم تواضعه وخضوعه للدين، فهو لا يتعامل معه بإيمان والتزام، لهذا من الصعب عليه أن يفهمه في جوهره وحقيقته ومقاصده وغاياته. فالدين لم يأت لكي يمارس المثقف عليه فرديته ويحوله إلى رأي يتميز به أو يعرف به، كما يعلن ذلك الجابري، بل جاء لكي يكون الدين الذي يلتزم به الإنسان ويتقيد بعباداته وقوانينه وأحكامه وحدوده، فلا يكفي الانتماء الفكري كما هو حال البعض، فالمثقف الذي لا يكون عابداً لله سبحانه وتعالى لا يمكنه أن يفهم الدين على حقيقته وأصالته ... وليس معيباً للمثقف أن يتظاهر بالانتماء للدين والالتزام بأحكامه وشرائعه، كما قد يظن البعض بحيث يفسر هذا الانتماء والالتزام على أنه يخدش في جدية الباحث والأكاديمي والمفكر، وما يتطلبه الحياد العلمي والموضوعي والمنهجي بالنسبة للمثقف أو المفكر، خصوصاً عند الذين يأخذون بعين الاعتبار نظرة الغربيين لهم، والسعي للحصول على مكانة معترف بها في أوساطهم.
إننا بالتأكيد ننزه أصول وأسس الدين، ولا نحملها أخطاء البشر، بخلاف تام مع الماركسية وأصولها وماهيتها ومطلقاتها ... فلا تصح هذه الجرأة على الدين والتعاطي معه بالنقد ببساطة شديدة من غير تمييز واضح بين الدين في أصالته كما أوحى به الله سبحانه وتعالى، وبين المعرفة البشرية التي تشكلت في فكر المسلمين حوله، أو بينه وبين التاريخ الإسلامي أو التراث الإسلامي.
ينبغي الحذر الشديد في التعامل مع الدين، الذي لا يجوز التحدث فيه بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير (ومن الناس مَن يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا أولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير).
وأخيراً فإن المثقف في العالم العربي والإسلامي مطالب بأن يُعيد النظر في رؤيته للدين، ويصحح هذه الرؤية، وقد حصل هذا بالفعل مع البعض الذين وجدوا في الدين ضالتهم الحقيقية، واقتنعوا بأن أي مشروع نهضوي في الأمة لا يمكن أن يكون بعيداً عن الدين، وكل المحاولات الفكرية التي حاولت أن تُغيب الدين وتعزله عن أطروحاتها التنويرية والتغييرية، لم تستطع النفاذ إلى عقول الناس، واصطدمت بواقع اجتماعي يرفض بشدة إقصاء الدين، بل يزداد به تمسكاً وإصراراً على الاهتمام به. فالمثقفون الذين حاولوا عزل الدين عن المجتمع وجدوا أنهم قد عزلوا أنفسهم عن الناس.
وقد قلب نظرتهم إليه حين ظهر كأقوى عامل في خلق الانبعاث والنهوض في الأمة، وهذا ما فشلت في تحقيقه كل الإيديولوجيات التي نقلها المثقفون من الفكر الأوروبي بمرجعياته الغربية والشرقية، والتي وصلت إلى طريق مأزوم ومسدود.
فالمثقف بحاجة إلى أن يكتشف ذاته من جديد، ولن يكتشف هذه الذات من خلال تلك الإيديولوجيات التي جعلته غريباً عن ذاته ومجتمعه وهويته وتاريخه، وإنما من خلال نظرة صحيحة للدين.


حياة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس