عرض مشاركة واحدة
قديم 21-05-04, 07:16 PM   #2

هيفاء
سفيرة زهـرة الشرق

رقم العضوية : 1615
تاريخ التسجيل : Apr 2004
عدد المشاركات : 4,287
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ هيفاء

هز رأسه
ـ ـ ربما ذهبت إليه في دار جدي
رمقني بعينيه الغبيتين‏..‏ ولهث‏..‏ ثم دب الأرض بحذائه الكالح والذي يحمل أثقالا من روث وأعواد من قش‏..‏ وحمل الكلوب ومضي يخب في الشارع الطويل‏..‏ فأسرعت من خلفه‏..‏ أتعثر‏..‏ إلي أن وصلنا إلي بيت جدي‏.‏
ودفع باب جدي الموارب بيده‏..‏ فأز‏..‏ وتساقط من فوق رأسينا تراب‏.‏

ودخل يتخبط والكلوب في يده‏..‏ إلي بيت جدي المهدم‏..‏ وأنا من خلفه‏..‏ أتخبط في أكوام من حجارة وأخشاب‏.‏
وأدار الكلوب‏..‏ في الباحة الخالية‏..‏ الساكنة‏..‏ ليتوقف عليها‏:‏ جسد نحيل‏..‏ مكوم‏..‏ راكع علي ركبتيه‏..‏ إلي الحائط‏..‏ كأنها تصلي‏..‏ ولامسها‏.‏
ـ ـ عبد الحليم
ـ ـ أنت محفوظ يا أمي

واستدرت‏..‏
فبهت‏..‏ اضطربت‏..‏ كدت أتهاوي‏.‏
هذه ليست أمي‏.‏
هذه شبح لايمت بصلة لأمي‏.‏
مثل عود الحطب جسدها‏.‏ منطفئ وجهها‏..‏ وعيناها ميتتان‏..‏
لا‏..‏ ليست هذه أمي
ـ ـ احمل أمك
ومد زراعه القوية إليها‏..‏ فمددت ذراعي المرتجفة‏.‏
ـ احمل جيدا

وانزلقنا بها خارجين من الباب الموارب‏..‏ وزحفنا بها إلي دار محفوظ ـ دارنا ـ تلك التي تواجه دار جدي‏.‏
ودخلنا بها إلي المندرة‏..‏ وأنامها محفوظ فوق دكة عليها غطاء رقيق‏.‏
ـ اسقني يا محفوظ‏.‏

وأسرعت زوجة محفوظ إلي القلة‏..‏ وأقامها محفوظ‏..‏ وسقتها زوجته وأنامها محفوظ‏.‏
هذه ليست أمي‏..‏
لا‏..‏ هذه لاتمت بصلة إلي أمي‏.‏
وتحركت إلي كثبان من رمال‏..‏
وريح‏.‏
ووجدتني ثانية في صحراء‏.‏
لقد جئت لأبحث عن أمي فلم أجدها‏..‏ فما الذي يبقيني بلا أمي؟‏!‏

ورأيتني أنتفض خارجا من صحرائي‏.‏
ـ إلي أين؟
ـ أستأذن في الانصراف‏.‏
ـ ليس قبل أن نتواجه بالحساب‏.‏
ـ أي حساب؟

ـ لقد قمت بدوري في رعاية أمك طيلة سنوات غيابك‏..‏ وآن لك الآن أن تقوم بدورك‏.‏
ـ أي دور؟
ـ أن تأخذ أمك‏.‏
أصابتني لطمة‏.‏
وتركني ومضي زاحفا بحذائه الثقيل‏.‏
والكلوب يفح في مواجهتي‏.‏
والنائمة فوق الدكة الخشبية خرقة‏..‏ بالية‏.‏
هذه ليست أمي‏..‏
لقد أضاع اللعين أمي‏.‏

وسمعت حذاءه يزحف من خلفي‏.‏
ـ أنا لن استطيع أن آخذ أمي‏.‏
ـ لماذا؟
ـ لأنني سأسافر بعد شهر إلي الدولة التي كنت معارا بها‏.‏

جأر‏:‏
ـ ألم تشبع؟ لك عشرات السنين تسافر إلي الإعارة وتعود من الإعارة‏..‏ وتكدس الأموال‏..‏ وتشتري الأراضي والعقارات‏.‏
لمن تترك كل هذه الثروات وأنت بلا ذرية‏..‏ لزوجتك‏..‏ بوز الفأر كما كانت تسميها أمك؟‏!‏
رمقته‏.‏
ـ أما آن لك أن تخرج من هذه الصحراء؟
دفعني الفظ ثانية إلي البئر بلا قرار‏.‏
ـ تعال لتستريح قليلا لأنك ستحمل أمك في الصباح‏..‏ في عربتك‏..‏ إلي مسكنك‏.‏
صرخت من البئر‏.‏
ـ بل الآن‏.‏

هز رأسه موافقا‏..‏ وسمعته ينادي علي زوجته لتحضر أشياء أمي‏..‏ فوجدتها تحضر علي الفور كيسا من البلاستيك ممتلئا بالملابس‏..‏ وشبشب قديم‏.‏
المسألة إذن معدة منذ البداية‏.‏
ورأيته ـ الفظ ـ يحمل أمه النائمة‏.‏
ـ احمل معي‏.‏

وحملناها إلي العربة‏..‏ وزوجة أخي تحمل الكلوب المضاء فوق رأسها‏..‏ وباليد الأخري تحمل كيس البلاستيك والشبشب القديم‏.‏
وأجلسناها في المقعد الأخير من العربة‏..‏ لكنها تمايلت‏..‏ فأنمتها فوق المقعد‏..‏ ممددة‏.‏
وألقت زوجة أخي بالكيس البلاستيكي والشبشب القديم إلي داخل العربة‏.‏

وانطلقت بالعربة‏..‏ انطلقت بلا كلمة‏.‏
خارجة من متاهة الرمال‏..‏ داخلا إلي متاهة الرمال‏.‏
حاملا معي جثة أمي في المقعد الأخير‏.‏
ورمقتها‏.‏
تبدو مثل جثة ممددة مثل جثة‏.‏
تركة السنين كلها‏..‏ تلك الجثة‏.‏
أشق بها الصحراءاللاهبة‏.‏
أتسلق بها كثبانا من رمال‏..‏ وأهوي بها إلي وهاد‏.‏
والعربة تصطك‏..‏ لكنها ـ للعجب ـ تواصل المسير‏.‏
وجثة أمي في المؤخرة‏..‏ أخوض بها في الصحراء‏..‏ لأواريها الثري هناك في شقتي‏.‏
وتتوقف العربة أمام شقتي‏.‏

وأزعق مناديا علي البواب‏..‏ وتطلع لي ابنته ـ زاهية ـ الريفية‏..‏ القوية مثل رجل‏..‏
وأطلب منها أن تساعدني في حمل أمي‏.‏
وتندفع إلي باب العربة تفتحه‏..‏ وتسحب أمي من المقعد الخلفي‏..‏ وتدخل من أسفلها‏..‏ تحملها‏..‏ وتزحف بها إلي المصعد‏.‏
وتصعد بها إلي مسكني‏..‏ وتدخل بها ـ كما طلبت منها ـ إلي حجرة الضيوف‏.‏
تلك الحجرة التي ظلت منذ زواجنا حكرا علي أخوات زوجتي وأمها‏.‏

وتمددها فوق السرير‏.‏
وأسرع إلي الهاتف‏..‏ أخبر زوجتي أنني جئت بأمي‏.‏
ويمتد بوزها الفأري المشعر إلي حبتي عيني يصرخ‏:‏
ـ وكيف تجرؤ علي إحضار أمك إلي مسكني؟‏!‏
ـ إنه مسكني أيضا‏.‏

وبوزها الفأري المشعر يتلاعب أمام عيني‏:‏
ـ أعد أمك ثانية إلي حيث كانت‏.‏
الملعونة‏.‏
ـ طوال عشرات السنين‏..‏ مئاتها‏..‏ آلافها‏...‏ تحاصرني‏..‏ تمنعني عن أمي وأهلي‏..‏ وتدفع أمها وأهلها إلي‏.‏
ـ اسقني يامحفوظ‏.‏

سمعت الجثة تتمتم‏..‏ ولم أتحرك‏..‏ فأسرعت زاهية إلي كوب من الماء وأقامتها ثم تشممتها‏:‏
ـ أمك بحاجة إلي أن تستحم‏.‏
ـ لماذا؟
وطأطأت رأسها
ـ هل لديك غيار لها وجلباب؟
وادفع إليها بالكيس البلاستيكي‏.‏
ـ احمله معي إلي الحمام‏.‏
وأسندها من بعيد بيدي
ـ ابق معي حتي لا تنزلق مني‏.‏

وتجلسها زاهية فوق مقعد‏..‏ وتأخذ في خلع ملابسها عنها‏..‏ قطعة قطعة‏..‏ ليبين ذلك الجسد‏.‏
الجسد الضامر‏..‏ المسكين‏..‏ الخاوي‏..‏ الضعيف‏..‏ اللاهث‏..‏ المرتبك‏..‏ المتراجع‏..‏ المنزوي‏..‏ الرائح‏..‏ المنسحق‏..‏ الضائع‏..‏ الفاني‏.‏
والذي ليس لأمي‏.‏
وتحممها زاهية‏..‏ تصب الماء عليها‏..‏ وتدعك جسدها باللوفة والصابون‏..‏ مرة‏..‏مرتين‏..‏ في حرص وأناة‏..‏ كأنما هي ابنتها‏..‏ بينما أنا شارد‏..‏ إلي البعيد‏..‏ غائب في صحرائي‏..‏ غارق في رمالي‏.‏
ويرن جرس الهاتف
ـ عليك أن تعيد أمك في الصباح إلي أخيك‏.‏
وزاهية تجلس إلي أمي‏..‏ تطعمها من طبق ممتلئ بالخضار المسلوق المدهوك‏..‏ في أناة وتريث‏..‏ كأنها فعلا ابنتها‏.‏

ويرن جرس الهاتف‏.‏
وزاهية تجلسها إلي مقعد له ذراعان‏..‏ وتلفها ببطانية وتفتح لها التلفاز‏.‏
وأمي تفتح عينا وترمق التلفاز‏..‏ ووجهها يتلون‏..‏ كأنما تتعجب لذلك الصوت الذي يتردد‏..‏ ولتلك الصورة التي تومض‏.‏

ويرن جرس الهاتف‏.‏
وزاهية تسندها‏..‏ تمضي بها في الردهة‏..‏ خطوة‏..‏ خطوتين‏..‏ ثم تجلسها إلي المقعد وتلفها في البطانية‏.‏
وتفتح أمي عينين‏..‏ تدور بهما في أنحاء الشقة‏..‏ كأنما تتلمس‏..‏ أين هي؟
وأنا أرقب مايحدث‏..‏ أرقبه من صحرائي البعيدة‏.‏

لكني ذات مساء‏..‏ وجدتني أتقدم إليها‏..‏ وأربت عليها‏:‏
ـ عبدالحليم‏.‏
ـ أنا محروس‏.‏
ـ محروس‏!‏
ـ محروس ابنك يا أمي‏.‏

وترفع حاجبيها‏..‏ تجاهد‏..‏ تدفع أنواء النسيان‏..‏ غيومه‏..‏ لعل شمس الذاكرة تشرق‏..‏ لكنها تعود خائبة‏..‏ وقد ضربتها رياح النسيان‏..‏ قتلت الخضرة في أرضها‏..‏ وأسلمتها إلي صحراء‏.‏ وزاهية تخطو بها في ردهة الشقة جيئة وذهابا‏.‏
وأسرع إليها‏..‏ أمسك بيدها‏..‏ أخطو بها في ردهة الشقة‏.‏
ثم أجلسها إلي المقعد‏..‏ وألف البطانية من حولها‏..‏ وأفتح لها التلفاز‏.‏
ويرن جرس الهاتف‏.‏
‏.‏ـ هل أعدت أمك إلي أخيك؟
ـ لا
ـ لماذا؟
ـ لأنني لن أعيدها
ـ ماذا قلت؟‏!‏
لن أعيد عليها ـ الملعونة ـ ماسمعت‏.‏
وأجلس إلي أمي أطعمها بيدي‏..‏ لقمة لقمة‏.‏

ـ عبدالحليم
ـ أنا لست عبد الحليم يا أمي‏..‏ أنا محروس
ـ محروس‏!‏
ولا تتذكرني‏.‏

تتذكر أخاها الذي غرق في البحر طفلا‏..‏ ولا تتذكر ابنها الذي غرق في الرمل شيخا‏!‏
ـ أنا محروس يا أمي‏.‏
وترمقني‏..‏ تجاهد لتتذكر‏..‏ لتدفع أنواء النسيان لتخرج من صحرائها اللعينة‏.‏
ـ ويرن جرس الهاتف‏.‏

ويمتد بوز زوجتي الفأري المشعر إلي أذني‏:‏
ـ الإجازة قاربت علي الانتهاء‏..‏ وعليك أن تعد نفسك للسفر في الإعارة‏.‏
ـ أنا لن أسافر إلي الإعارة‏.‏
ـ ماذا قلت؟
لن أعيد عليها أبدا ـ تلك الملعونة ـ ما سمعت‏.‏
عشرات السنين‏..‏ مئات السنين‏.‏ آلاف السنين‏..‏ أدور في ساقيتها‏..‏ أروي الأرض الجدباء والأرض الجدباء لاتثمر إلاجدبا‏..‏ صحراء والصحراء تمتد‏..‏ تحيط بي‏.‏
علي أن أخرج من هذه الصحراء‏.‏

وأمي تخطو من تلقاء نفسها‏..‏ وخيط من ملامح يعود إليها وأربت عليها
ـ عبد الحليم‏.‏
لم تعد أمي تذكر غير الماضي‏..‏ أنا الآخر لي ماض
كنت طفلا‏..‏ منذ آلاف الأعوام كنت طفلا
هل تذكرين يا أمي؟
وترمقني
أنا الطفل محروس‏..‏ ابنك الذي كان يلعب في حضنك‏.‏

يلعب البلي والكرة ويتسلق اشجار التوت ويذهب الي الترعة ليصطاد السمك‏...‏ فيعود متسخا مبلولا‏..‏ فتمسكين بيده وأنت تبتسمين‏:‏ هيا الي الحمام‏.‏
وتجثين علي ركبتين فالقي بذراعي حول رقبتك‏,‏ فتحملينني وانت تتمتمين‏:‏ هوبا ياجمل حمدان‏.‏
وتمضين بي الي الحمام
ـ الحمام‏!‏
واشتعل وجهها‏...‏ اشتعل‏..‏ كأنما أمسكت بأول الخيط‏.‏
وفي الحمام كنت تغسلينني من الوسخ‏..‏ تدعكين جسدي بقوة حتي اضج
جسدي ووجهي واسناني‏..‏ حتي انك كسرت لي سنا

ضحكت
أنا محروس‏..‏ ابنك الطفل هذا يا أمي
واشتعل وجهها وانفرطت دموع من عينيها‏..‏ وغيوم تدفعها بقوة لتتذكرني‏..‏ لتحطني في بؤبؤي عينينها
ووجدتها تجأر‏:‏ محروس
كأنها ولدتني‏..‏ وجدتني
وجثت امي‏..‏ فألقيت بذراعي من حول رقبتها‏:‏ هوبا يا جمل حمدان

ومضيت من خلفها الي الحمام‏.‏


توقيع : هيفاء


يا عندليب ما تخافش من غنوتك
قول شكوتك واحكي على بلوتك
الغنوة مش ح تموتك انما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك

عجبي





زهرة الشرق
zahrah.com

هيفاء غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس