هز رأسه
ـ ـ ربما ذهبت إليه في دار جدي
رمقني بعينيه الغبيتين.. ولهث.. ثم دب الأرض بحذائه الكالح والذي يحمل أثقالا من روث وأعواد من قش.. وحمل الكلوب ومضي يخب في الشارع الطويل.. فأسرعت من خلفه.. أتعثر.. إلي أن وصلنا إلي بيت جدي.
ودفع باب جدي الموارب بيده.. فأز.. وتساقط من فوق رأسينا تراب.
ودخل يتخبط والكلوب في يده.. إلي بيت جدي المهدم.. وأنا من خلفه.. أتخبط في أكوام من حجارة وأخشاب.
وأدار الكلوب.. في الباحة الخالية.. الساكنة.. ليتوقف عليها: جسد نحيل.. مكوم.. راكع علي ركبتيه.. إلي الحائط.. كأنها تصلي.. ولامسها.
ـ ـ عبد الحليم
ـ ـ أنت محفوظ يا أمي
واستدرت..
فبهت.. اضطربت.. كدت أتهاوي.
هذه ليست أمي.
هذه شبح لايمت بصلة لأمي.
مثل عود الحطب جسدها. منطفئ وجهها.. وعيناها ميتتان..
لا.. ليست هذه أمي
ـ ـ احمل أمك
ومد زراعه القوية إليها.. فمددت ذراعي المرتجفة.
ـ احمل جيدا
وانزلقنا بها خارجين من الباب الموارب.. وزحفنا بها إلي دار محفوظ ـ دارنا ـ تلك التي تواجه دار جدي.
ودخلنا بها إلي المندرة.. وأنامها محفوظ فوق دكة عليها غطاء رقيق.
ـ اسقني يا محفوظ.
وأسرعت زوجة محفوظ إلي القلة.. وأقامها محفوظ.. وسقتها زوجته وأنامها محفوظ.
هذه ليست أمي..
لا.. هذه لاتمت بصلة إلي أمي.
وتحركت إلي كثبان من رمال..
وريح.
ووجدتني ثانية في صحراء.
لقد جئت لأبحث عن أمي فلم أجدها.. فما الذي يبقيني بلا أمي؟!
ورأيتني أنتفض خارجا من صحرائي.
ـ إلي أين؟
ـ أستأذن في الانصراف.
ـ ليس قبل أن نتواجه بالحساب.
ـ أي حساب؟
ـ لقد قمت بدوري في رعاية أمك طيلة سنوات غيابك.. وآن لك الآن أن تقوم بدورك.
ـ أي دور؟
ـ أن تأخذ أمك.
أصابتني لطمة.
وتركني ومضي زاحفا بحذائه الثقيل.
والكلوب يفح في مواجهتي.
والنائمة فوق الدكة الخشبية خرقة.. بالية.
هذه ليست أمي..
لقد أضاع اللعين أمي.
وسمعت حذاءه يزحف من خلفي.
ـ أنا لن استطيع أن آخذ أمي.
ـ لماذا؟
ـ لأنني سأسافر بعد شهر إلي الدولة التي كنت معارا بها.
جأر:
ـ ألم تشبع؟ لك عشرات السنين تسافر إلي الإعارة وتعود من الإعارة.. وتكدس الأموال.. وتشتري الأراضي والعقارات.
لمن تترك كل هذه الثروات وأنت بلا ذرية.. لزوجتك.. بوز الفأر كما كانت تسميها أمك؟!
رمقته.
ـ أما آن لك أن تخرج من هذه الصحراء؟
دفعني الفظ ثانية إلي البئر بلا قرار.
ـ تعال لتستريح قليلا لأنك ستحمل أمك في الصباح.. في عربتك.. إلي مسكنك.
صرخت من البئر.
ـ بل الآن.
هز رأسه موافقا.. وسمعته ينادي علي زوجته لتحضر أشياء أمي.. فوجدتها تحضر علي الفور كيسا من البلاستيك ممتلئا بالملابس.. وشبشب قديم.
المسألة إذن معدة منذ البداية.
ورأيته ـ الفظ ـ يحمل أمه النائمة.
ـ احمل معي.
وحملناها إلي العربة.. وزوجة أخي تحمل الكلوب المضاء فوق رأسها.. وباليد الأخري تحمل كيس البلاستيك والشبشب القديم.
وأجلسناها في المقعد الأخير من العربة.. لكنها تمايلت.. فأنمتها فوق المقعد.. ممددة.
وألقت زوجة أخي بالكيس البلاستيكي والشبشب القديم إلي داخل العربة.
وانطلقت بالعربة.. انطلقت بلا كلمة.
خارجة من متاهة الرمال.. داخلا إلي متاهة الرمال.
حاملا معي جثة أمي في المقعد الأخير.
ورمقتها.
تبدو مثل جثة ممددة مثل جثة.
تركة السنين كلها.. تلك الجثة.
أشق بها الصحراءاللاهبة.
أتسلق بها كثبانا من رمال.. وأهوي بها إلي وهاد.
والعربة تصطك.. لكنها ـ للعجب ـ تواصل المسير.
وجثة أمي في المؤخرة.. أخوض بها في الصحراء.. لأواريها الثري هناك في شقتي.
وتتوقف العربة أمام شقتي.
وأزعق مناديا علي البواب.. وتطلع لي ابنته ـ زاهية ـ الريفية.. القوية مثل رجل..
وأطلب منها أن تساعدني في حمل أمي.
وتندفع إلي باب العربة تفتحه.. وتسحب أمي من المقعد الخلفي.. وتدخل من أسفلها.. تحملها.. وتزحف بها إلي المصعد.
وتصعد بها إلي مسكني.. وتدخل بها ـ كما طلبت منها ـ إلي حجرة الضيوف.
تلك الحجرة التي ظلت منذ زواجنا حكرا علي أخوات زوجتي وأمها.
وتمددها فوق السرير.
وأسرع إلي الهاتف.. أخبر زوجتي أنني جئت بأمي.
ويمتد بوزها الفأري المشعر إلي حبتي عيني يصرخ:
ـ وكيف تجرؤ علي إحضار أمك إلي مسكني؟!
ـ إنه مسكني أيضا.
وبوزها الفأري المشعر يتلاعب أمام عيني:
ـ أعد أمك ثانية إلي حيث كانت.
الملعونة.
ـ طوال عشرات السنين.. مئاتها.. آلافها... تحاصرني.. تمنعني عن أمي وأهلي.. وتدفع أمها وأهلها إلي.
ـ اسقني يامحفوظ.
سمعت الجثة تتمتم.. ولم أتحرك.. فأسرعت زاهية إلي كوب من الماء وأقامتها ثم تشممتها:
ـ أمك بحاجة إلي أن تستحم.
ـ لماذا؟
وطأطأت رأسها
ـ هل لديك غيار لها وجلباب؟
وادفع إليها بالكيس البلاستيكي.
ـ احمله معي إلي الحمام.
وأسندها من بعيد بيدي
ـ ابق معي حتي لا تنزلق مني.
وتجلسها زاهية فوق مقعد.. وتأخذ في خلع ملابسها عنها.. قطعة قطعة.. ليبين ذلك الجسد.
الجسد الضامر.. المسكين.. الخاوي.. الضعيف.. اللاهث.. المرتبك.. المتراجع.. المنزوي.. الرائح.. المنسحق.. الضائع.. الفاني.
والذي ليس لأمي.
وتحممها زاهية.. تصب الماء عليها.. وتدعك جسدها باللوفة والصابون.. مرة..مرتين.. في حرص وأناة.. كأنما هي ابنتها.. بينما أنا شارد.. إلي البعيد.. غائب في صحرائي.. غارق في رمالي.
ويرن جرس الهاتف
ـ عليك أن تعيد أمك في الصباح إلي أخيك.
وزاهية تجلس إلي أمي.. تطعمها من طبق ممتلئ بالخضار المسلوق المدهوك.. في أناة وتريث.. كأنها فعلا ابنتها.
ويرن جرس الهاتف.
وزاهية تجلسها إلي مقعد له ذراعان.. وتلفها ببطانية وتفتح لها التلفاز.
وأمي تفتح عينا وترمق التلفاز.. ووجهها يتلون.. كأنما تتعجب لذلك الصوت الذي يتردد.. ولتلك الصورة التي تومض.
ويرن جرس الهاتف.
وزاهية تسندها.. تمضي بها في الردهة.. خطوة.. خطوتين.. ثم تجلسها إلي المقعد وتلفها في البطانية.
وتفتح أمي عينين.. تدور بهما في أنحاء الشقة.. كأنما تتلمس.. أين هي؟
وأنا أرقب مايحدث.. أرقبه من صحرائي البعيدة.
لكني ذات مساء.. وجدتني أتقدم إليها.. وأربت عليها:
ـ عبدالحليم.
ـ أنا محروس.
ـ محروس!
ـ محروس ابنك يا أمي.
وترفع حاجبيها.. تجاهد.. تدفع أنواء النسيان.. غيومه.. لعل شمس الذاكرة تشرق.. لكنها تعود خائبة.. وقد ضربتها رياح النسيان.. قتلت الخضرة في أرضها.. وأسلمتها إلي صحراء. وزاهية تخطو بها في ردهة الشقة جيئة وذهابا.
وأسرع إليها.. أمسك بيدها.. أخطو بها في ردهة الشقة.
ثم أجلسها إلي المقعد.. وألف البطانية من حولها.. وأفتح لها التلفاز.
ويرن جرس الهاتف.
.ـ هل أعدت أمك إلي أخيك؟
ـ لا
ـ لماذا؟
ـ لأنني لن أعيدها
ـ ماذا قلت؟!
لن أعيد عليها ـ الملعونة ـ ماسمعت.
وأجلس إلي أمي أطعمها بيدي.. لقمة لقمة.
ـ عبدالحليم
ـ أنا لست عبد الحليم يا أمي.. أنا محروس
ـ محروس!
ولا تتذكرني.
تتذكر أخاها الذي غرق في البحر طفلا.. ولا تتذكر ابنها الذي غرق في الرمل شيخا!
ـ أنا محروس يا أمي.
وترمقني.. تجاهد لتتذكر.. لتدفع أنواء النسيان لتخرج من صحرائها اللعينة.
ـ ويرن جرس الهاتف.
ويمتد بوز زوجتي الفأري المشعر إلي أذني:
ـ الإجازة قاربت علي الانتهاء.. وعليك أن تعد نفسك للسفر في الإعارة.
ـ أنا لن أسافر إلي الإعارة.
ـ ماذا قلت؟
لن أعيد عليها أبدا ـ تلك الملعونة ـ ما سمعت.
عشرات السنين.. مئات السنين. آلاف السنين.. أدور في ساقيتها.. أروي الأرض الجدباء والأرض الجدباء لاتثمر إلاجدبا.. صحراء والصحراء تمتد.. تحيط بي.
علي أن أخرج من هذه الصحراء.
وأمي تخطو من تلقاء نفسها.. وخيط من ملامح يعود إليها وأربت عليها
ـ عبد الحليم.
لم تعد أمي تذكر غير الماضي.. أنا الآخر لي ماض
كنت طفلا.. منذ آلاف الأعوام كنت طفلا
هل تذكرين يا أمي؟
وترمقني
أنا الطفل محروس.. ابنك الذي كان يلعب في حضنك.
يلعب البلي والكرة ويتسلق اشجار التوت ويذهب الي الترعة ليصطاد السمك... فيعود متسخا مبلولا.. فتمسكين بيده وأنت تبتسمين: هيا الي الحمام.
وتجثين علي ركبتين فالقي بذراعي حول رقبتك, فتحملينني وانت تتمتمين: هوبا ياجمل حمدان.
وتمضين بي الي الحمام
ـ الحمام!
واشتعل وجهها... اشتعل.. كأنما أمسكت بأول الخيط.
وفي الحمام كنت تغسلينني من الوسخ.. تدعكين جسدي بقوة حتي اضج
جسدي ووجهي واسناني.. حتي انك كسرت لي سنا
ضحكت
أنا محروس.. ابنك الطفل هذا يا أمي
واشتعل وجهها وانفرطت دموع من عينيها.. وغيوم تدفعها بقوة لتتذكرني.. لتحطني في بؤبؤي عينينها
ووجدتها تجأر: محروس
كأنها ولدتني.. وجدتني
وجثت امي.. فألقيت بذراعي من حول رقبتها: هوبا يا جمل حمدان
ومضيت من خلفها الي الحمام.
توقيع : هيفاء
يا عندليب ما تخافش من غنوتك
قول شكوتك واحكي على بلوتك
الغنوة مش ح تموتك انما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك
عجبي
زهرة الشرق
zahrah.com
|