عرض مشاركة واحدة
قديم 21-05-04, 07:15 PM   #1

هيفاء
سفيرة زهـرة الشرق

رقم العضوية : 1615
تاريخ التسجيل : Apr 2004
عدد المشاركات : 4,287
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ هيفاء
لا تجعل الدنيا اكبر همك


الـــــرجوع إلي الحمام
بقلم‏:‏ صلاح عبد السيد




لم أكد أخطو ـ في إثر الحقائب وزوجتي ـ داخلا إلي الشقة حتي اندلع رنين الهاتف‏.‏
فزعت‏.‏

كان الرنين مثل ضربات جرس كبير صدئ‏..‏ تلطم رأسي والجدران‏..‏ وتحدث زوبعة من رنين‏..‏ تتراقص فيها خيالات هلامية من غبار‏..‏ في الضوء الخابي‏.‏
وزوجتي هناك في الضفة الأخري من الردهة ترمقني‏.‏
والمقاعد‏..‏

وصورتي المعلقة‏..‏ بنصف عين‏..‏ من وراء ستار‏.‏
وعيناي متورمتان‏..‏
وتحت جفوني رمل‏.‏
وبداخل جسدي‏.‏
والصداع يلطم رأسي‏..‏
والرنين‏..‏
الرنين المجنون‏.‏

وبدا لي الهاتف عدوا‏.‏
عدوا يتربص بي في الضفة الأخري من الردهة‏..‏ يخزن لي ـ لابد ـ مصيبة قادمة‏.‏
من ذلك الملعون الذي يترصد خطوي بعد عام من الغياب‏..‏ ليهدمني بذلك الرنين المفجع؟
وعيناي تتلمسان الردهة المتربة ذات الضوء الخابي‏.‏

هل أرفع سماعة الهاتف فتهدمني المصيبة التي ـ لابد ـ قادمة‏..‏ أم أتغاضي لأستريح لأيام‏..‏ بعد رحلة العودة المهلكة‏..‏ التي قدت فيها العربة المحملة بأكداس من حقائب وأغراض‏..‏ عبر الصحراء اللاهبة؟
والعدو رابص في الضفة الأخري‏..‏ ممعن في تحديه‏.‏
لن يتركني هذا العدو اللعين إلا إذا عبرت إليه وواجهته‏.‏

وزوجتي ترمقني من الضفة الأخري‏..‏ ويمتد بوزها الفأري المشعر إلي‏:‏
ـ ـ رد
وأعبر إلي الضفة الأخري‏..‏ أشق ذرات التراب الناعمة كأنما أشق الصحراء اللعينة‏..‏ إلي ذلك العدو اللعين‏.‏
وأقبض علي رقبته‏..‏

وقبل أن أنبس يتدافع إلي صوت أخي‏:‏
ـ ـ حسنا إنك عدت
ـ ـ هل حدث شيء؟
ـ ـ أمك ضاعت
ـ ـ ضاعت؟
تمتمت
ـ ـ غافلتنا في الصباح الباكر وتسللت خارجة من الدار‏..‏ وبحثنا عنها في كل مكان فلم نعثر لها علي أثر‏.‏
سقطت في بئر بلا قرار‏..‏

ومن البئر صرخت‏:‏
ـ ـ وكيف غافلتكم أيها الغافلون؟‏!‏
وتدافع صوته الفظ إلي‏:‏
ـ ـ بدل أن تهيننا أيها المتعلم‏..‏ تعال الآن لتبحث معنا عن أمك
ـ ـ لا أستطيع الآن
ـ ـ أنت لا تستطيع دائما‏..‏ متي تصبح رجلا؟

وأغلق سماعة الهاتف
الفظ الملعون الذي سرق إرثي‏:‏ أرضي وبيتي‏.‏
وزحفت عائدا إلي الضفة الأخري‏..‏ وارتميت فوق مقعد‏.‏

وزوجتي من فوق رأسي ترمقني‏..‏ وبوزها الفأري المشعر يمتد إلي‏:‏
ـ ـ ما الذي حدث؟
تسمع الملعونة كل شئ‏..‏ لكنها ـ كعادتها ـ تطلب مني أن أعيد ماسمعت‏.‏
وأعدت‏.‏
أمي ضاعت‏..‏ وأخي محفوظ يطلب مني أن أسافر الآن إلي القرية للبحث عنها‏.‏

ـ ـ وما الذي ستفعله لها؟
ـ ـ لاتنسي أنها أمي
ـ ـ لكنك متعب‏..‏لك أيام لم تنم
ـ ـ لابد أن أسافر الآن
ـ ـ انتظر حتي الصباح
ـ ـ الآن
وانزلقت علي خشب الباركيه في طريقي إلي باب الشقة‏.‏
ـ ـ انتظر

استدرت
ـ ـ احملني معك في طريقك إلي مسكن أمي‏.‏
وأشارت لي علي حقيبتها الكبيرة لأحملها‏.‏

تلك الحقيبة التي بها دنياها وآخرتها‏:‏ ذهبها‏..‏ نقودها‏..‏ دفاتر توفيرها‏..‏ عقودها التي اشترت بها الأراضي والشقق‏..‏ وبها ملابسها‏.‏
وحملت الحقيبة الثقيلة ومضيت أزحف بها نازلا فوق السلم‏..‏ ودفعتها إلي حقيبة العربة‏..‏ وانزلقت إلي مقعد القيادة‏..‏ فجلست إلي جواري ترمقني في ضيق‏..‏ وبوزها الفأري المشعر يشكني في عيني‏.‏

وانطلقت بالعربة‏..‏ والرمال تحت جفوني‏..‏
والصداع يضرب رأسي‏..‏
والبشر أمامي يعومون في سراب‏..‏
في رمال‏..‏
في صحراء‏..‏
لم تغادرني الصحراء بعد‏.‏

والعربة تشق طريقها وسط الصحراء‏..‏ إلي أن وصلت إلي بيت أمها‏..‏ فأنزلتها والحقيبة‏..‏ وانطلقت بلاكلمة‏.‏
جسدي يلهث‏..‏ عيناي‏.‏
وذرات من رمل ملعون تغطي زجاج العربة الأمامي‏..‏ والخلفي‏..‏ والمرآة‏..‏ والمقاعد‏..‏ وملابسي‏.‏

وأوقفت العربة‏..‏ أمسح بالفوطة الصفراء تلك الصحراء‏.‏
والطريق يتأرجح أمامي‏..‏
طويل‏..‏ طويل وملتو‏.‏
والأشجار تخرج لي من العتمة‏..‏
والكلاب‏.‏

وأنا أحجل بالعربة علي الطريق‏..‏ أمسك بمقود العربة في قوة‏..‏ خشية أن تنزلق بي إلي الترعة المجاورة‏.‏
والعربة تشق الليل‏..‏ وتتلوي علي الطريق‏..‏ كأنما من تلقاء نفسها تقودني‏..‏
أنا ذاهب الآن إلي قريتي‏..‏ إلي أخي محفوظ‏..‏ لأبحث معه عن أمي‏..‏ عن أمي التي أضاعها‏..‏ ذلك اللعين‏..‏ الذي سرق إرثي‏:‏ أرضي وبيتي‏..‏ بحجة أني تعلمت‏..‏ بينما بقي هو فلاحا يزرع‏.‏
ومن يومها تركت له أمي‏.‏

وتخايلت لي أمي‏..‏ لي سنوات لم أرها‏..‏ موغلة في البعد‏..‏ كأنها فرت مني‏..‏ ذهبت إلي زمن آخر‏..‏ والضباب تدافع إليها‏.‏
وأدفع الضباب بكل قوتي عن صورة أمي‏.‏
وتطل‏..‏
تطل بوجهها الباسم‏.‏
أمي‏..‏ بلسمي‏.‏
أمي‏..‏ قمري‏.‏
أمي‏..‏ شمسي‏.‏
دنياي‏..‏
أمي‏..‏

وأسرع بالعربة‏..‏ والعربة تصطك‏..‏ تمضي من تلقاء نفسها‏..‏ كأنما تتوق هي الأخري للبحث عن أمي‏.‏
والقري تتتابع علي الناحيتين‏..‏ طينية‏..‏ جاثية‏..‏ كابية‏..‏ بينها بيت أو اثنان يتعاليان‏..‏
والضوء الخافت المرتعش يتسرب منها‏.‏
والعربة تندفع علي الطريق كأنما يد لاقبل لي بمقاومتها‏..‏ هي التي تدفعها‏.‏
وتنبثق لي قريتي‏..‏ أراها فجأة عن يميني وأنا غافل‏..‏
والكوبري يطلع لي‏.‏

وأري العربة التي تعرف الطريق تصعد إلي الكوبري وتمضي إلي دارنا ـ دار محفوظ ـ وتتوقف أمام الدار‏.‏
وباب الدار مفتوح‏..‏ وباحة الدار خالية‏..‏ إلا من كلوب مشتعل يلهث‏..‏
وطبلية مكسورة‏..‏ وحزمة برسيم‏..‏ وفردة قبقاب‏.‏
وأصفق بيدي‏..‏ فتطلع لي زوجة أخي ترضع طفلها‏..‏
وتبتسم لي‏..‏ فتبين أسنانها الصفراء‏..‏الخضراء‏.‏

ـ ـ أين أخي؟
ـ ـ مع الرجال هناك علي جسر البحر
ـ ـ البحر‏!‏
وأتذكر‏..‏ يسمون النيل البحر‏.‏
ـ ـ وماذا يصنع والرجال علي جسر البحر؟
ـ ـ ينتظرون طلوع جثة أمك
ـ ـ أمي‏..‏

وهرولت‏..‏ أتخبط في شوارع القرية‏..‏ أبحث عن ذلك الشارع الترابي الطويل الذي يفضي إلي البحر‏..‏
وأتعثر فيه‏..‏ أجري‏..‏ إلي أن أصل إلي جسر البحر‏..‏ لأجدهم هناك ـ محفوظ والرجال ـ في ملابسهم الثقيلة وعمائمهم العالية يجلسون القرفصاء‏..‏ وأمامهم كلوبات تفح‏.‏
و‏..‏

ـ ـ السلام عليكم
وينهضون‏..‏ ويزعقون برد السلام‏..‏ إلا أخي محفوظ‏..‏ يظل جالسا القرفصاء‏.‏
وأزحف إليه‏.‏
ـ ـ كيف غرقت أمنا؟
ـ ـ بعض الناس رأوها عند الغروب تجلس فوق اللسان الحجري الممدود في البحر وتكلمه
ـ ـ تكلم البحر؟‏!‏

هز رأسه
ـ ـ أمي؟‏!‏
أنت لاتعرف ما الذي جري لأمك في غيابك
ـ ـ ما الذي جري لأمك في غيابك
ـ ـ ما الذي جري لها؟
ـ ـ أصابها الخرف‏..‏ حتي أنها تكلم الأموات وتنادي عليهم
ـ ـ أمي؟‏!‏
ـ ـ تنادي علي أخيها عبد الحليم الذي غرق في البحر طفلا
ـ ـ أمي؟‏!‏
ـ ـ أنت لم تعد تعلم شيئا عن أمك‏..‏ أنت هناك لاه في حياتك الباذخة‏..‏ وتترك الهم هنا لمحفوظ‏.‏
ولهث‏..‏ فتدافع زبد من شدقية‏.‏

جلست
القرفصاء صامتا‏..‏ والكلوبات تفح‏..‏ والعيون تتسابق إلي صفحة النهر‏..‏ تتلمسها‏..‏ تبحث عن أية بادرة لأية جثة تطفو‏.‏
ووجدتني أهمس لأخي
ـ ـ تقول إن أمك تنادي علي أخيها الميت؟


توقيع : هيفاء


يا عندليب ما تخافش من غنوتك
قول شكوتك واحكي على بلوتك
الغنوة مش ح تموتك انما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك

عجبي





زهرة الشرق
zahrah.com

هيفاء غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس