لا تجعل الدنيا اكبر همك
الـــــرجوع إلي الحمام
بقلم: صلاح عبد السيد
لم أكد أخطو ـ في إثر الحقائب وزوجتي ـ داخلا إلي الشقة حتي اندلع رنين الهاتف.
فزعت.
كان الرنين مثل ضربات جرس كبير صدئ.. تلطم رأسي والجدران.. وتحدث زوبعة من رنين.. تتراقص فيها خيالات هلامية من غبار.. في الضوء الخابي.
وزوجتي هناك في الضفة الأخري من الردهة ترمقني.
والمقاعد..
وصورتي المعلقة.. بنصف عين.. من وراء ستار.
وعيناي متورمتان..
وتحت جفوني رمل.
وبداخل جسدي.
والصداع يلطم رأسي..
والرنين..
الرنين المجنون.
وبدا لي الهاتف عدوا.
عدوا يتربص بي في الضفة الأخري من الردهة.. يخزن لي ـ لابد ـ مصيبة قادمة.
من ذلك الملعون الذي يترصد خطوي بعد عام من الغياب.. ليهدمني بذلك الرنين المفجع؟
وعيناي تتلمسان الردهة المتربة ذات الضوء الخابي.
هل أرفع سماعة الهاتف فتهدمني المصيبة التي ـ لابد ـ قادمة.. أم أتغاضي لأستريح لأيام.. بعد رحلة العودة المهلكة.. التي قدت فيها العربة المحملة بأكداس من حقائب وأغراض.. عبر الصحراء اللاهبة؟
والعدو رابص في الضفة الأخري.. ممعن في تحديه.
لن يتركني هذا العدو اللعين إلا إذا عبرت إليه وواجهته.
وزوجتي ترمقني من الضفة الأخري.. ويمتد بوزها الفأري المشعر إلي:
ـ ـ رد
وأعبر إلي الضفة الأخري.. أشق ذرات التراب الناعمة كأنما أشق الصحراء اللعينة.. إلي ذلك العدو اللعين.
وأقبض علي رقبته..
وقبل أن أنبس يتدافع إلي صوت أخي:
ـ ـ حسنا إنك عدت
ـ ـ هل حدث شيء؟
ـ ـ أمك ضاعت
ـ ـ ضاعت؟
تمتمت
ـ ـ غافلتنا في الصباح الباكر وتسللت خارجة من الدار.. وبحثنا عنها في كل مكان فلم نعثر لها علي أثر.
سقطت في بئر بلا قرار..
ومن البئر صرخت:
ـ ـ وكيف غافلتكم أيها الغافلون؟!
وتدافع صوته الفظ إلي:
ـ ـ بدل أن تهيننا أيها المتعلم.. تعال الآن لتبحث معنا عن أمك
ـ ـ لا أستطيع الآن
ـ ـ أنت لا تستطيع دائما.. متي تصبح رجلا؟
وأغلق سماعة الهاتف
الفظ الملعون الذي سرق إرثي: أرضي وبيتي.
وزحفت عائدا إلي الضفة الأخري.. وارتميت فوق مقعد.
وزوجتي من فوق رأسي ترمقني.. وبوزها الفأري المشعر يمتد إلي:
ـ ـ ما الذي حدث؟
تسمع الملعونة كل شئ.. لكنها ـ كعادتها ـ تطلب مني أن أعيد ماسمعت.
وأعدت.
أمي ضاعت.. وأخي محفوظ يطلب مني أن أسافر الآن إلي القرية للبحث عنها.
ـ ـ وما الذي ستفعله لها؟
ـ ـ لاتنسي أنها أمي
ـ ـ لكنك متعب..لك أيام لم تنم
ـ ـ لابد أن أسافر الآن
ـ ـ انتظر حتي الصباح
ـ ـ الآن
وانزلقت علي خشب الباركيه في طريقي إلي باب الشقة.
ـ ـ انتظر
استدرت
ـ ـ احملني معك في طريقك إلي مسكن أمي.
وأشارت لي علي حقيبتها الكبيرة لأحملها.
تلك الحقيبة التي بها دنياها وآخرتها: ذهبها.. نقودها.. دفاتر توفيرها.. عقودها التي اشترت بها الأراضي والشقق.. وبها ملابسها.
وحملت الحقيبة الثقيلة ومضيت أزحف بها نازلا فوق السلم.. ودفعتها إلي حقيبة العربة.. وانزلقت إلي مقعد القيادة.. فجلست إلي جواري ترمقني في ضيق.. وبوزها الفأري المشعر يشكني في عيني.
وانطلقت بالعربة.. والرمال تحت جفوني..
والصداع يضرب رأسي..
والبشر أمامي يعومون في سراب..
في رمال..
في صحراء..
لم تغادرني الصحراء بعد.
والعربة تشق طريقها وسط الصحراء.. إلي أن وصلت إلي بيت أمها.. فأنزلتها والحقيبة.. وانطلقت بلاكلمة.
جسدي يلهث.. عيناي.
وذرات من رمل ملعون تغطي زجاج العربة الأمامي.. والخلفي.. والمرآة.. والمقاعد.. وملابسي.
وأوقفت العربة.. أمسح بالفوطة الصفراء تلك الصحراء.
والطريق يتأرجح أمامي..
طويل.. طويل وملتو.
والأشجار تخرج لي من العتمة..
والكلاب.
وأنا أحجل بالعربة علي الطريق.. أمسك بمقود العربة في قوة.. خشية أن تنزلق بي إلي الترعة المجاورة.
والعربة تشق الليل.. وتتلوي علي الطريق.. كأنما من تلقاء نفسها تقودني..
أنا ذاهب الآن إلي قريتي.. إلي أخي محفوظ.. لأبحث معه عن أمي.. عن أمي التي أضاعها.. ذلك اللعين.. الذي سرق إرثي: أرضي وبيتي.. بحجة أني تعلمت.. بينما بقي هو فلاحا يزرع.
ومن يومها تركت له أمي.
وتخايلت لي أمي.. لي سنوات لم أرها.. موغلة في البعد.. كأنها فرت مني.. ذهبت إلي زمن آخر.. والضباب تدافع إليها.
وأدفع الضباب بكل قوتي عن صورة أمي.
وتطل..
تطل بوجهها الباسم.
أمي.. بلسمي.
أمي.. قمري.
أمي.. شمسي.
دنياي..
أمي..
وأسرع بالعربة.. والعربة تصطك.. تمضي من تلقاء نفسها.. كأنما تتوق هي الأخري للبحث عن أمي.
والقري تتتابع علي الناحيتين.. طينية.. جاثية.. كابية.. بينها بيت أو اثنان يتعاليان..
والضوء الخافت المرتعش يتسرب منها.
والعربة تندفع علي الطريق كأنما يد لاقبل لي بمقاومتها.. هي التي تدفعها.
وتنبثق لي قريتي.. أراها فجأة عن يميني وأنا غافل..
والكوبري يطلع لي.
وأري العربة التي تعرف الطريق تصعد إلي الكوبري وتمضي إلي دارنا ـ دار محفوظ ـ وتتوقف أمام الدار.
وباب الدار مفتوح.. وباحة الدار خالية.. إلا من كلوب مشتعل يلهث..
وطبلية مكسورة.. وحزمة برسيم.. وفردة قبقاب.
وأصفق بيدي.. فتطلع لي زوجة أخي ترضع طفلها..
وتبتسم لي.. فتبين أسنانها الصفراء..الخضراء.
ـ ـ أين أخي؟
ـ ـ مع الرجال هناك علي جسر البحر
ـ ـ البحر!
وأتذكر.. يسمون النيل البحر.
ـ ـ وماذا يصنع والرجال علي جسر البحر؟
ـ ـ ينتظرون طلوع جثة أمك
ـ ـ أمي..
وهرولت.. أتخبط في شوارع القرية.. أبحث عن ذلك الشارع الترابي الطويل الذي يفضي إلي البحر..
وأتعثر فيه.. أجري.. إلي أن أصل إلي جسر البحر.. لأجدهم هناك ـ محفوظ والرجال ـ في ملابسهم الثقيلة وعمائمهم العالية يجلسون القرفصاء.. وأمامهم كلوبات تفح.
و..
ـ ـ السلام عليكم
وينهضون.. ويزعقون برد السلام.. إلا أخي محفوظ.. يظل جالسا القرفصاء.
وأزحف إليه.
ـ ـ كيف غرقت أمنا؟
ـ ـ بعض الناس رأوها عند الغروب تجلس فوق اللسان الحجري الممدود في البحر وتكلمه
ـ ـ تكلم البحر؟!
هز رأسه
ـ ـ أمي؟!
أنت لاتعرف ما الذي جري لأمك في غيابك
ـ ـ ما الذي جري لأمك في غيابك
ـ ـ ما الذي جري لها؟
ـ ـ أصابها الخرف.. حتي أنها تكلم الأموات وتنادي عليهم
ـ ـ أمي؟!
ـ ـ تنادي علي أخيها عبد الحليم الذي غرق في البحر طفلا
ـ ـ أمي؟!
ـ ـ أنت لم تعد تعلم شيئا عن أمك.. أنت هناك لاه في حياتك الباذخة.. وتترك الهم هنا لمحفوظ.
ولهث.. فتدافع زبد من شدقية.
جلست
القرفصاء صامتا.. والكلوبات تفح.. والعيون تتسابق إلي صفحة النهر.. تتلمسها.. تبحث عن أية بادرة لأية جثة تطفو.
ووجدتني أهمس لأخي
ـ ـ تقول إن أمك تنادي علي أخيها الميت؟
توقيع : هيفاء
يا عندليب ما تخافش من غنوتك
قول شكوتك واحكي على بلوتك
الغنوة مش ح تموتك انما
كتم الغنا هو اللى ح يموتك
عجبي
زهرة الشرق
zahrah.com
|