عرض مشاركة واحدة
قديم 12-09-03, 01:54 PM   #2

أحزان ليل
العضوية البرونزية

رقم العضوية : 629
تاريخ التسجيل : Jan 2003
عدد المشاركات : 451
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ أحزان ليل

مزيج من الأدب والتاريخ

هذا كله يطرحه معلوف على قارئه من خلال عدة سمات أسلوبية مميزة؛ أولها هو البحث التاريخي الدقيق. كل رواية من روايات معلوف تتضمن العديد من المعلومات الموثقة من مصادر أولية وأساسية، ففي الحروب الصليبية يعتمد معلوف على المؤرخين العرب المسلمين في عصر الحروب الصليبية كمصدر أساسي للمعلومات، ويضمن كتابه فقرات كبيرة من كتابات المؤرخين، في "سمرقند" يعتمد على الترجمات العديدة لرباعيات الخيام وعلى ترجمة حياته وعلى كتابات المؤرخين في عصره، بل ويقدم معلومات جديدة فيغير -مثلا- المعنى المتواتر لفرقة الحسن بن الصباح الحشاشين، تلك الفرقة الباطنية المجهولة في التراث الإسلامي والتي تتناثر حولها الأقاويل والأساطير الغامضة، فهو يخبرنا أن اسم Assassin الإنجليزي أو الإفرنجي بشكل عام لا يعود إطلاقًا للحشيش. فالحسن بن الصباح لم يكن يقدم لأتباعه ومريديه عقارًا مخدرا ليقتلوا أعداءهم وإنما كان يعبئهم بالإيمان الصلب والأساسي وأن الاسم الذي أطلقه عليه زعيمهم هو "الأساسيون" أي الذين يحافظون على الأساس، وأن هذا الاسم هو الذي وصل للغرب ومنه تحور وحمل الأسطورة التي عادت إلينا.

في "ليون الإفريقي" يعتمد على كتابات الرجل وخاصة رحلته "وصف إفريقيا" لكنه يعتمد كذلك على كتب المؤرخين حول الأخوين "بارباروسا" و"طومانباي" و"جيوفاني دي موتشي" وغيرهم، وفي "موانئ الشرق" يعتمد على كتابات المؤرخين المعاصرين حول المقاومة السرية في فرنسا وكذلك على تطور الهجرة اليهودية لفلسطين بعد الحرب العالمية الثانية.

البحث يحول الرواية الخيالية إلى عالم من الواقع عن طريق التناص الواقعي والتاريخي، إنه يضفي المصداقية على الرواية ويحولها إلى تاريخ، وربما لهذا نجد التنوع في أسلوبية السرد عند معلوف في مختلف الروايات. في "الحروب الصليبية" هناك صوت الراوي المحايد البعيد، المؤرخ الذي يحاول تقديم المعلومة بحياد ولكنه يعلن منذ البداية أنه متحيز.

وفي "سمرقند" يتأرجح السرد ويلف حول المخطوط المفقود الموجود حتى ينتهي الأمر إلى فقدانه التام مع تعيين موضعه بدقة في "صندوق" في قاع المحيط في حطام "التيتانيك".

لذا نجد أن صوت الراوي يتراوح بين الـ(أنا) المتداخلة في الحدث مثلما يحدث عندما يسرد البطل تاريخ ومغامرات الحصول على المخطوط وقصة حبه لشيرين الأميرة الإيرانية وتلميذة السيد جمال الدين الأفغاني، وبين الـ(هو) المبتعدة عن الحدث عندما يقص علينا قصة عمر الخيام وقصة الحشاشين وقصة صعود وانهيار إمبراطورية السلاجقة.

إنه يقدم في هذه الرواية نصًا متداخلا يتأرجح بين الكتابة التاريخية والتسجيل اليومي في محاولة منه لرفع درجة مصداقية النص، فالراوي في كل الأحوال ليس راوية، إنه بطل الحدث الأساسي، ألا وهو البحث عن المخطوط.

في "ليون الإفريقي" يعتمد معلوف على المؤلف البطل كراوٍ ويصبح السرد بمثابة تسجيل لحوليات؛ كل حولية هي رؤية لمكان عبر الزمان والشخصية التي يحدثنا عنها الراوي المؤرخ الرحالة (ليون الإفريقي).

"عام سلمى" هو عام ولادته وسلمى هي أمه ومن خلالها يقص علينا قصة الصراع بين المسلمين في غرناطة وأيامهم الأخيرة وسقوط الأندلس.

"عام طومان باي" هو عام آخر المماليك السلطان الشجاع الذي اعتمد على المصريين ليرد الزحف العثماني.

الرحالة المؤرخ يقوم بدوره ويتركه معلوف ليقدم لقارئه يوميات أو حوليات، قصد الرحالة أن يتركها لابنه وقصد معلوف أن يقدمها للعالم.

في "موانئ الشرق" تدور الرواية بين الراوي المعجب بالشخصية الرئيسية والذي عرفها من صورتها المنشورة في كتبه المدرسية كأنه يحكي عن نفسه أي عن معلوف كراوٍ وبين البطل رغم أنفه "عصيان كتبدار" الذي يحكي لمعلوف الراوي ليزجي وقته ويرفع عن نفسه عناء الانتظار المؤلم للأمل الأخير في حياته.

في الأمسيات الأربعة التي يقضيانها معًا يقص علينا معلوف على لسان "عصيان كتبدار" تاريخ الرجل منذ ولادته في الآستانة إلى رحيله للبنان إلى أفراد أسرته، جدته المجنونة وأبوه المتمرد الأبدي وأخوه المتمرد الآني وأخته المحبة التي ستقوم بدور الأم وعائلة أمه الأرمينية ورحلته إلى فرنسا ودوره في المقاومة ولقاؤه بحبيبته اليهودية التي يتزوجها بعد انتهاء الحرب وبالذات بسبب هجرتها مع خالها إلى فلسطين، وإيداعه مستشفى الأمراض العقلية لنعرف في النهاية قصة هروبه إلى فرنسا بعد الحرب الأهلية اللبنانية وأنه ينتظر لقاء زوجته بعد أن طلب منها في رسالة أن يلتقيا في نفس المكان الذي جمعهما بعد الحرب لأول مرة على جسر على نهر "السين" في باريس.

في أربعة أيام، ومن خلال (أنا) قلقة حائرة و(أنا) مسائلة متطلعة تحاورها لا نسمع صوتها إلا في خفوت وفي مواضع قليلة، يقص علينا معلوف رؤية خاصة جدًا، لتاريخ خاص جدًا لمنطقة عامة جدًا هي الشرق الأدنى أو الأوسط كما يسميه الغربيون.

تنوع أسلوبية السرد والانتقال من الـ(أنا) إلى الـ(هو) والاعتماد على فكرة التسجيل أو اليوميات أو الحوليات أو التاريخ نجده كذلك في روايته المستقبلية "القرن الأول بعد بياتريس"، وكأنه يقول لنا: "حتى المستقبل أنا أراه كتاريخ".

وهكذا يصنع معلوف المرشح لنوبل عالمه الروائي من التاريخ الشخصي والعام لمنطقته ويقدمه للقارئ الفرنسي ثم يترجم لنا كعرب.




بقلم / د. أسامة القفاش

كاتب ومترجم مصري


توقيع : أحزان ليل





أحزان ليل غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس