منتديات زهرة الشرق

منتديات زهرة الشرق (http://www.zahrah.com/vb/index.php)
-   شخصيات وحكايات (http://www.zahrah.com/vb/forumdisplay.php?f=16)
-   -   لا تجعل الدنيا اكبر همك (http://www.zahrah.com/vb/showthread.php?t=15009)

هيفاء 21-05-04 07:15 PM

لا تجعل الدنيا اكبر همك
 
الـــــرجوع إلي الحمام
بقلم‏:‏ صلاح عبد السيد




لم أكد أخطو ـ في إثر الحقائب وزوجتي ـ داخلا إلي الشقة حتي اندلع رنين الهاتف‏.‏
فزعت‏.‏

كان الرنين مثل ضربات جرس كبير صدئ‏..‏ تلطم رأسي والجدران‏..‏ وتحدث زوبعة من رنين‏..‏ تتراقص فيها خيالات هلامية من غبار‏..‏ في الضوء الخابي‏.‏
وزوجتي هناك في الضفة الأخري من الردهة ترمقني‏.‏
والمقاعد‏..‏

وصورتي المعلقة‏..‏ بنصف عين‏..‏ من وراء ستار‏.‏
وعيناي متورمتان‏..‏
وتحت جفوني رمل‏.‏
وبداخل جسدي‏.‏
والصداع يلطم رأسي‏..‏
والرنين‏..‏
الرنين المجنون‏.‏

وبدا لي الهاتف عدوا‏.‏
عدوا يتربص بي في الضفة الأخري من الردهة‏..‏ يخزن لي ـ لابد ـ مصيبة قادمة‏.‏
من ذلك الملعون الذي يترصد خطوي بعد عام من الغياب‏..‏ ليهدمني بذلك الرنين المفجع؟
وعيناي تتلمسان الردهة المتربة ذات الضوء الخابي‏.‏

هل أرفع سماعة الهاتف فتهدمني المصيبة التي ـ لابد ـ قادمة‏..‏ أم أتغاضي لأستريح لأيام‏..‏ بعد رحلة العودة المهلكة‏..‏ التي قدت فيها العربة المحملة بأكداس من حقائب وأغراض‏..‏ عبر الصحراء اللاهبة؟
والعدو رابص في الضفة الأخري‏..‏ ممعن في تحديه‏.‏
لن يتركني هذا العدو اللعين إلا إذا عبرت إليه وواجهته‏.‏

وزوجتي ترمقني من الضفة الأخري‏..‏ ويمتد بوزها الفأري المشعر إلي‏:‏
ـ ـ رد
وأعبر إلي الضفة الأخري‏..‏ أشق ذرات التراب الناعمة كأنما أشق الصحراء اللعينة‏..‏ إلي ذلك العدو اللعين‏.‏
وأقبض علي رقبته‏..‏

وقبل أن أنبس يتدافع إلي صوت أخي‏:‏
ـ ـ حسنا إنك عدت
ـ ـ هل حدث شيء؟
ـ ـ أمك ضاعت
ـ ـ ضاعت؟
تمتمت
ـ ـ غافلتنا في الصباح الباكر وتسللت خارجة من الدار‏..‏ وبحثنا عنها في كل مكان فلم نعثر لها علي أثر‏.‏
سقطت في بئر بلا قرار‏..‏

ومن البئر صرخت‏:‏
ـ ـ وكيف غافلتكم أيها الغافلون؟‏!‏
وتدافع صوته الفظ إلي‏:‏
ـ ـ بدل أن تهيننا أيها المتعلم‏..‏ تعال الآن لتبحث معنا عن أمك
ـ ـ لا أستطيع الآن
ـ ـ أنت لا تستطيع دائما‏..‏ متي تصبح رجلا؟

وأغلق سماعة الهاتف
الفظ الملعون الذي سرق إرثي‏:‏ أرضي وبيتي‏.‏
وزحفت عائدا إلي الضفة الأخري‏..‏ وارتميت فوق مقعد‏.‏

وزوجتي من فوق رأسي ترمقني‏..‏ وبوزها الفأري المشعر يمتد إلي‏:‏
ـ ـ ما الذي حدث؟
تسمع الملعونة كل شئ‏..‏ لكنها ـ كعادتها ـ تطلب مني أن أعيد ماسمعت‏.‏
وأعدت‏.‏
أمي ضاعت‏..‏ وأخي محفوظ يطلب مني أن أسافر الآن إلي القرية للبحث عنها‏.‏

ـ ـ وما الذي ستفعله لها؟
ـ ـ لاتنسي أنها أمي
ـ ـ لكنك متعب‏..‏لك أيام لم تنم
ـ ـ لابد أن أسافر الآن
ـ ـ انتظر حتي الصباح
ـ ـ الآن
وانزلقت علي خشب الباركيه في طريقي إلي باب الشقة‏.‏
ـ ـ انتظر

استدرت
ـ ـ احملني معك في طريقك إلي مسكن أمي‏.‏
وأشارت لي علي حقيبتها الكبيرة لأحملها‏.‏

تلك الحقيبة التي بها دنياها وآخرتها‏:‏ ذهبها‏..‏ نقودها‏..‏ دفاتر توفيرها‏..‏ عقودها التي اشترت بها الأراضي والشقق‏..‏ وبها ملابسها‏.‏
وحملت الحقيبة الثقيلة ومضيت أزحف بها نازلا فوق السلم‏..‏ ودفعتها إلي حقيبة العربة‏..‏ وانزلقت إلي مقعد القيادة‏..‏ فجلست إلي جواري ترمقني في ضيق‏..‏ وبوزها الفأري المشعر يشكني في عيني‏.‏

وانطلقت بالعربة‏..‏ والرمال تحت جفوني‏..‏
والصداع يضرب رأسي‏..‏
والبشر أمامي يعومون في سراب‏..‏
في رمال‏..‏
في صحراء‏..‏
لم تغادرني الصحراء بعد‏.‏

والعربة تشق طريقها وسط الصحراء‏..‏ إلي أن وصلت إلي بيت أمها‏..‏ فأنزلتها والحقيبة‏..‏ وانطلقت بلاكلمة‏.‏
جسدي يلهث‏..‏ عيناي‏.‏
وذرات من رمل ملعون تغطي زجاج العربة الأمامي‏..‏ والخلفي‏..‏ والمرآة‏..‏ والمقاعد‏..‏ وملابسي‏.‏

وأوقفت العربة‏..‏ أمسح بالفوطة الصفراء تلك الصحراء‏.‏
والطريق يتأرجح أمامي‏..‏
طويل‏..‏ طويل وملتو‏.‏
والأشجار تخرج لي من العتمة‏..‏
والكلاب‏.‏

وأنا أحجل بالعربة علي الطريق‏..‏ أمسك بمقود العربة في قوة‏..‏ خشية أن تنزلق بي إلي الترعة المجاورة‏.‏
والعربة تشق الليل‏..‏ وتتلوي علي الطريق‏..‏ كأنما من تلقاء نفسها تقودني‏..‏
أنا ذاهب الآن إلي قريتي‏..‏ إلي أخي محفوظ‏..‏ لأبحث معه عن أمي‏..‏ عن أمي التي أضاعها‏..‏ ذلك اللعين‏..‏ الذي سرق إرثي‏:‏ أرضي وبيتي‏..‏ بحجة أني تعلمت‏..‏ بينما بقي هو فلاحا يزرع‏.‏
ومن يومها تركت له أمي‏.‏

وتخايلت لي أمي‏..‏ لي سنوات لم أرها‏..‏ موغلة في البعد‏..‏ كأنها فرت مني‏..‏ ذهبت إلي زمن آخر‏..‏ والضباب تدافع إليها‏.‏
وأدفع الضباب بكل قوتي عن صورة أمي‏.‏
وتطل‏..‏
تطل بوجهها الباسم‏.‏
أمي‏..‏ بلسمي‏.‏
أمي‏..‏ قمري‏.‏
أمي‏..‏ شمسي‏.‏
دنياي‏..‏
أمي‏..‏

وأسرع بالعربة‏..‏ والعربة تصطك‏..‏ تمضي من تلقاء نفسها‏..‏ كأنما تتوق هي الأخري للبحث عن أمي‏.‏
والقري تتتابع علي الناحيتين‏..‏ طينية‏..‏ جاثية‏..‏ كابية‏..‏ بينها بيت أو اثنان يتعاليان‏..‏
والضوء الخافت المرتعش يتسرب منها‏.‏
والعربة تندفع علي الطريق كأنما يد لاقبل لي بمقاومتها‏..‏ هي التي تدفعها‏.‏
وتنبثق لي قريتي‏..‏ أراها فجأة عن يميني وأنا غافل‏..‏
والكوبري يطلع لي‏.‏

وأري العربة التي تعرف الطريق تصعد إلي الكوبري وتمضي إلي دارنا ـ دار محفوظ ـ وتتوقف أمام الدار‏.‏
وباب الدار مفتوح‏..‏ وباحة الدار خالية‏..‏ إلا من كلوب مشتعل يلهث‏..‏
وطبلية مكسورة‏..‏ وحزمة برسيم‏..‏ وفردة قبقاب‏.‏
وأصفق بيدي‏..‏ فتطلع لي زوجة أخي ترضع طفلها‏..‏
وتبتسم لي‏..‏ فتبين أسنانها الصفراء‏..‏الخضراء‏.‏

ـ ـ أين أخي؟
ـ ـ مع الرجال هناك علي جسر البحر
ـ ـ البحر‏!‏
وأتذكر‏..‏ يسمون النيل البحر‏.‏
ـ ـ وماذا يصنع والرجال علي جسر البحر؟
ـ ـ ينتظرون طلوع جثة أمك
ـ ـ أمي‏..‏

وهرولت‏..‏ أتخبط في شوارع القرية‏..‏ أبحث عن ذلك الشارع الترابي الطويل الذي يفضي إلي البحر‏..‏
وأتعثر فيه‏..‏ أجري‏..‏ إلي أن أصل إلي جسر البحر‏..‏ لأجدهم هناك ـ محفوظ والرجال ـ في ملابسهم الثقيلة وعمائمهم العالية يجلسون القرفصاء‏..‏ وأمامهم كلوبات تفح‏.‏
و‏..‏

ـ ـ السلام عليكم
وينهضون‏..‏ ويزعقون برد السلام‏..‏ إلا أخي محفوظ‏..‏ يظل جالسا القرفصاء‏.‏
وأزحف إليه‏.‏
ـ ـ كيف غرقت أمنا؟
ـ ـ بعض الناس رأوها عند الغروب تجلس فوق اللسان الحجري الممدود في البحر وتكلمه
ـ ـ تكلم البحر؟‏!‏

هز رأسه
ـ ـ أمي؟‏!‏
أنت لاتعرف ما الذي جري لأمك في غيابك
ـ ـ ما الذي جري لأمك في غيابك
ـ ـ ما الذي جري لها؟
ـ ـ أصابها الخرف‏..‏ حتي أنها تكلم الأموات وتنادي عليهم
ـ ـ أمي؟‏!‏
ـ ـ تنادي علي أخيها عبد الحليم الذي غرق في البحر طفلا
ـ ـ أمي؟‏!‏
ـ ـ أنت لم تعد تعلم شيئا عن أمك‏..‏ أنت هناك لاه في حياتك الباذخة‏..‏ وتترك الهم هنا لمحفوظ‏.‏
ولهث‏..‏ فتدافع زبد من شدقية‏.‏

جلست
القرفصاء صامتا‏..‏ والكلوبات تفح‏..‏ والعيون تتسابق إلي صفحة النهر‏..‏ تتلمسها‏..‏ تبحث عن أية بادرة لأية جثة تطفو‏.‏
ووجدتني أهمس لأخي
ـ ـ تقول إن أمك تنادي علي أخيها الميت؟

هيفاء 21-05-04 07:16 PM

هز رأسه
ـ ـ ربما ذهبت إليه في دار جدي
رمقني بعينيه الغبيتين‏..‏ ولهث‏..‏ ثم دب الأرض بحذائه الكالح والذي يحمل أثقالا من روث وأعواد من قش‏..‏ وحمل الكلوب ومضي يخب في الشارع الطويل‏..‏ فأسرعت من خلفه‏..‏ أتعثر‏..‏ إلي أن وصلنا إلي بيت جدي‏.‏
ودفع باب جدي الموارب بيده‏..‏ فأز‏..‏ وتساقط من فوق رأسينا تراب‏.‏

ودخل يتخبط والكلوب في يده‏..‏ إلي بيت جدي المهدم‏..‏ وأنا من خلفه‏..‏ أتخبط في أكوام من حجارة وأخشاب‏.‏
وأدار الكلوب‏..‏ في الباحة الخالية‏..‏ الساكنة‏..‏ ليتوقف عليها‏:‏ جسد نحيل‏..‏ مكوم‏..‏ راكع علي ركبتيه‏..‏ إلي الحائط‏..‏ كأنها تصلي‏..‏ ولامسها‏.‏
ـ ـ عبد الحليم
ـ ـ أنت محفوظ يا أمي

واستدرت‏..‏
فبهت‏..‏ اضطربت‏..‏ كدت أتهاوي‏.‏
هذه ليست أمي‏.‏
هذه شبح لايمت بصلة لأمي‏.‏
مثل عود الحطب جسدها‏.‏ منطفئ وجهها‏..‏ وعيناها ميتتان‏..‏
لا‏..‏ ليست هذه أمي
ـ ـ احمل أمك
ومد زراعه القوية إليها‏..‏ فمددت ذراعي المرتجفة‏.‏
ـ احمل جيدا

وانزلقنا بها خارجين من الباب الموارب‏..‏ وزحفنا بها إلي دار محفوظ ـ دارنا ـ تلك التي تواجه دار جدي‏.‏
ودخلنا بها إلي المندرة‏..‏ وأنامها محفوظ فوق دكة عليها غطاء رقيق‏.‏
ـ اسقني يا محفوظ‏.‏

وأسرعت زوجة محفوظ إلي القلة‏..‏ وأقامها محفوظ‏..‏ وسقتها زوجته وأنامها محفوظ‏.‏
هذه ليست أمي‏..‏
لا‏..‏ هذه لاتمت بصلة إلي أمي‏.‏
وتحركت إلي كثبان من رمال‏..‏
وريح‏.‏
ووجدتني ثانية في صحراء‏.‏
لقد جئت لأبحث عن أمي فلم أجدها‏..‏ فما الذي يبقيني بلا أمي؟‏!‏

ورأيتني أنتفض خارجا من صحرائي‏.‏
ـ إلي أين؟
ـ أستأذن في الانصراف‏.‏
ـ ليس قبل أن نتواجه بالحساب‏.‏
ـ أي حساب؟

ـ لقد قمت بدوري في رعاية أمك طيلة سنوات غيابك‏..‏ وآن لك الآن أن تقوم بدورك‏.‏
ـ أي دور؟
ـ أن تأخذ أمك‏.‏
أصابتني لطمة‏.‏
وتركني ومضي زاحفا بحذائه الثقيل‏.‏
والكلوب يفح في مواجهتي‏.‏
والنائمة فوق الدكة الخشبية خرقة‏..‏ بالية‏.‏
هذه ليست أمي‏..‏
لقد أضاع اللعين أمي‏.‏

وسمعت حذاءه يزحف من خلفي‏.‏
ـ أنا لن استطيع أن آخذ أمي‏.‏
ـ لماذا؟
ـ لأنني سأسافر بعد شهر إلي الدولة التي كنت معارا بها‏.‏

جأر‏:‏
ـ ألم تشبع؟ لك عشرات السنين تسافر إلي الإعارة وتعود من الإعارة‏..‏ وتكدس الأموال‏..‏ وتشتري الأراضي والعقارات‏.‏
لمن تترك كل هذه الثروات وأنت بلا ذرية‏..‏ لزوجتك‏..‏ بوز الفأر كما كانت تسميها أمك؟‏!‏
رمقته‏.‏
ـ أما آن لك أن تخرج من هذه الصحراء؟
دفعني الفظ ثانية إلي البئر بلا قرار‏.‏
ـ تعال لتستريح قليلا لأنك ستحمل أمك في الصباح‏..‏ في عربتك‏..‏ إلي مسكنك‏.‏
صرخت من البئر‏.‏
ـ بل الآن‏.‏

هز رأسه موافقا‏..‏ وسمعته ينادي علي زوجته لتحضر أشياء أمي‏..‏ فوجدتها تحضر علي الفور كيسا من البلاستيك ممتلئا بالملابس‏..‏ وشبشب قديم‏.‏
المسألة إذن معدة منذ البداية‏.‏
ورأيته ـ الفظ ـ يحمل أمه النائمة‏.‏
ـ احمل معي‏.‏

وحملناها إلي العربة‏..‏ وزوجة أخي تحمل الكلوب المضاء فوق رأسها‏..‏ وباليد الأخري تحمل كيس البلاستيك والشبشب القديم‏.‏
وأجلسناها في المقعد الأخير من العربة‏..‏ لكنها تمايلت‏..‏ فأنمتها فوق المقعد‏..‏ ممددة‏.‏
وألقت زوجة أخي بالكيس البلاستيكي والشبشب القديم إلي داخل العربة‏.‏

وانطلقت بالعربة‏..‏ انطلقت بلا كلمة‏.‏
خارجة من متاهة الرمال‏..‏ داخلا إلي متاهة الرمال‏.‏
حاملا معي جثة أمي في المقعد الأخير‏.‏
ورمقتها‏.‏
تبدو مثل جثة ممددة مثل جثة‏.‏
تركة السنين كلها‏..‏ تلك الجثة‏.‏
أشق بها الصحراءاللاهبة‏.‏
أتسلق بها كثبانا من رمال‏..‏ وأهوي بها إلي وهاد‏.‏
والعربة تصطك‏..‏ لكنها ـ للعجب ـ تواصل المسير‏.‏
وجثة أمي في المؤخرة‏..‏ أخوض بها في الصحراء‏..‏ لأواريها الثري هناك في شقتي‏.‏
وتتوقف العربة أمام شقتي‏.‏

وأزعق مناديا علي البواب‏..‏ وتطلع لي ابنته ـ زاهية ـ الريفية‏..‏ القوية مثل رجل‏..‏
وأطلب منها أن تساعدني في حمل أمي‏.‏
وتندفع إلي باب العربة تفتحه‏..‏ وتسحب أمي من المقعد الخلفي‏..‏ وتدخل من أسفلها‏..‏ تحملها‏..‏ وتزحف بها إلي المصعد‏.‏
وتصعد بها إلي مسكني‏..‏ وتدخل بها ـ كما طلبت منها ـ إلي حجرة الضيوف‏.‏
تلك الحجرة التي ظلت منذ زواجنا حكرا علي أخوات زوجتي وأمها‏.‏

وتمددها فوق السرير‏.‏
وأسرع إلي الهاتف‏..‏ أخبر زوجتي أنني جئت بأمي‏.‏
ويمتد بوزها الفأري المشعر إلي حبتي عيني يصرخ‏:‏
ـ وكيف تجرؤ علي إحضار أمك إلي مسكني؟‏!‏
ـ إنه مسكني أيضا‏.‏

وبوزها الفأري المشعر يتلاعب أمام عيني‏:‏
ـ أعد أمك ثانية إلي حيث كانت‏.‏
الملعونة‏.‏
ـ طوال عشرات السنين‏..‏ مئاتها‏..‏ آلافها‏...‏ تحاصرني‏..‏ تمنعني عن أمي وأهلي‏..‏ وتدفع أمها وأهلها إلي‏.‏
ـ اسقني يامحفوظ‏.‏

سمعت الجثة تتمتم‏..‏ ولم أتحرك‏..‏ فأسرعت زاهية إلي كوب من الماء وأقامتها ثم تشممتها‏:‏
ـ أمك بحاجة إلي أن تستحم‏.‏
ـ لماذا؟
وطأطأت رأسها
ـ هل لديك غيار لها وجلباب؟
وادفع إليها بالكيس البلاستيكي‏.‏
ـ احمله معي إلي الحمام‏.‏
وأسندها من بعيد بيدي
ـ ابق معي حتي لا تنزلق مني‏.‏

وتجلسها زاهية فوق مقعد‏..‏ وتأخذ في خلع ملابسها عنها‏..‏ قطعة قطعة‏..‏ ليبين ذلك الجسد‏.‏
الجسد الضامر‏..‏ المسكين‏..‏ الخاوي‏..‏ الضعيف‏..‏ اللاهث‏..‏ المرتبك‏..‏ المتراجع‏..‏ المنزوي‏..‏ الرائح‏..‏ المنسحق‏..‏ الضائع‏..‏ الفاني‏.‏
والذي ليس لأمي‏.‏
وتحممها زاهية‏..‏ تصب الماء عليها‏..‏ وتدعك جسدها باللوفة والصابون‏..‏ مرة‏..‏مرتين‏..‏ في حرص وأناة‏..‏ كأنما هي ابنتها‏..‏ بينما أنا شارد‏..‏ إلي البعيد‏..‏ غائب في صحرائي‏..‏ غارق في رمالي‏.‏
ويرن جرس الهاتف
ـ عليك أن تعيد أمك في الصباح إلي أخيك‏.‏
وزاهية تجلس إلي أمي‏..‏ تطعمها من طبق ممتلئ بالخضار المسلوق المدهوك‏..‏ في أناة وتريث‏..‏ كأنها فعلا ابنتها‏.‏

ويرن جرس الهاتف‏.‏
وزاهية تجلسها إلي مقعد له ذراعان‏..‏ وتلفها ببطانية وتفتح لها التلفاز‏.‏
وأمي تفتح عينا وترمق التلفاز‏..‏ ووجهها يتلون‏..‏ كأنما تتعجب لذلك الصوت الذي يتردد‏..‏ ولتلك الصورة التي تومض‏.‏

ويرن جرس الهاتف‏.‏
وزاهية تسندها‏..‏ تمضي بها في الردهة‏..‏ خطوة‏..‏ خطوتين‏..‏ ثم تجلسها إلي المقعد وتلفها في البطانية‏.‏
وتفتح أمي عينين‏..‏ تدور بهما في أنحاء الشقة‏..‏ كأنما تتلمس‏..‏ أين هي؟
وأنا أرقب مايحدث‏..‏ أرقبه من صحرائي البعيدة‏.‏

لكني ذات مساء‏..‏ وجدتني أتقدم إليها‏..‏ وأربت عليها‏:‏
ـ عبدالحليم‏.‏
ـ أنا محروس‏.‏
ـ محروس‏!‏
ـ محروس ابنك يا أمي‏.‏

وترفع حاجبيها‏..‏ تجاهد‏..‏ تدفع أنواء النسيان‏..‏ غيومه‏..‏ لعل شمس الذاكرة تشرق‏..‏ لكنها تعود خائبة‏..‏ وقد ضربتها رياح النسيان‏..‏ قتلت الخضرة في أرضها‏..‏ وأسلمتها إلي صحراء‏.‏ وزاهية تخطو بها في ردهة الشقة جيئة وذهابا‏.‏
وأسرع إليها‏..‏ أمسك بيدها‏..‏ أخطو بها في ردهة الشقة‏.‏
ثم أجلسها إلي المقعد‏..‏ وألف البطانية من حولها‏..‏ وأفتح لها التلفاز‏.‏
ويرن جرس الهاتف‏.‏
‏.‏ـ هل أعدت أمك إلي أخيك؟
ـ لا
ـ لماذا؟
ـ لأنني لن أعيدها
ـ ماذا قلت؟‏!‏
لن أعيد عليها ـ الملعونة ـ ماسمعت‏.‏
وأجلس إلي أمي أطعمها بيدي‏..‏ لقمة لقمة‏.‏

ـ عبدالحليم
ـ أنا لست عبد الحليم يا أمي‏..‏ أنا محروس
ـ محروس‏!‏
ولا تتذكرني‏.‏

تتذكر أخاها الذي غرق في البحر طفلا‏..‏ ولا تتذكر ابنها الذي غرق في الرمل شيخا‏!‏
ـ أنا محروس يا أمي‏.‏
وترمقني‏..‏ تجاهد لتتذكر‏..‏ لتدفع أنواء النسيان لتخرج من صحرائها اللعينة‏.‏
ـ ويرن جرس الهاتف‏.‏

ويمتد بوز زوجتي الفأري المشعر إلي أذني‏:‏
ـ الإجازة قاربت علي الانتهاء‏..‏ وعليك أن تعد نفسك للسفر في الإعارة‏.‏
ـ أنا لن أسافر إلي الإعارة‏.‏
ـ ماذا قلت؟
لن أعيد عليها أبدا ـ تلك الملعونة ـ ما سمعت‏.‏
عشرات السنين‏..‏ مئات السنين‏.‏ آلاف السنين‏..‏ أدور في ساقيتها‏..‏ أروي الأرض الجدباء والأرض الجدباء لاتثمر إلاجدبا‏..‏ صحراء والصحراء تمتد‏..‏ تحيط بي‏.‏
علي أن أخرج من هذه الصحراء‏.‏

وأمي تخطو من تلقاء نفسها‏..‏ وخيط من ملامح يعود إليها وأربت عليها
ـ عبد الحليم‏.‏
لم تعد أمي تذكر غير الماضي‏..‏ أنا الآخر لي ماض
كنت طفلا‏..‏ منذ آلاف الأعوام كنت طفلا
هل تذكرين يا أمي؟
وترمقني
أنا الطفل محروس‏..‏ ابنك الذي كان يلعب في حضنك‏.‏

يلعب البلي والكرة ويتسلق اشجار التوت ويذهب الي الترعة ليصطاد السمك‏...‏ فيعود متسخا مبلولا‏..‏ فتمسكين بيده وأنت تبتسمين‏:‏ هيا الي الحمام‏.‏
وتجثين علي ركبتين فالقي بذراعي حول رقبتك‏,‏ فتحملينني وانت تتمتمين‏:‏ هوبا ياجمل حمدان‏.‏
وتمضين بي الي الحمام
ـ الحمام‏!‏
واشتعل وجهها‏...‏ اشتعل‏..‏ كأنما أمسكت بأول الخيط‏.‏
وفي الحمام كنت تغسلينني من الوسخ‏..‏ تدعكين جسدي بقوة حتي اضج
جسدي ووجهي واسناني‏..‏ حتي انك كسرت لي سنا

ضحكت
أنا محروس‏..‏ ابنك الطفل هذا يا أمي
واشتعل وجهها وانفرطت دموع من عينيها‏..‏ وغيوم تدفعها بقوة لتتذكرني‏..‏ لتحطني في بؤبؤي عينينها
ووجدتها تجأر‏:‏ محروس
كأنها ولدتني‏..‏ وجدتني
وجثت امي‏..‏ فألقيت بذراعي من حول رقبتها‏:‏ هوبا يا جمل حمدان

ومضيت من خلفها الي الحمام‏.‏

أشجان 23-05-04 12:14 PM

رائع

ما خططت يا هيفاء

نثرت كلمات ونسقت قصص

الف شكر لإبداع قلمك

ولك تحياتي

حياة 26-05-04 02:11 AM

شكرا لك هيفاء هذه القصة

تحياتي

أم متعـMـب 29-05-04 05:34 PM

[ALIGN=CENTER]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ،،،

¨°o.O ( أختي : هيفاء ) O.o°¨

شكرا لكِ على سرد هذه القصة
سلمتي لنا
وبانتظارك دوما


(`'•.¸(` '•. ¸ * ¸.•'´)¸.•'´)
«´¨`.¸.* تحيـاتي : أم متعـMـب *. ¸.´¨`»
(¸. •'´(¸.•'´ * `'•.¸)`'•.¸ )

[/ALIGN]

هيفاء 12-10-04 07:52 AM

سعيده بمروركم

تحيه لكم

سهارى 20-10-04 12:04 AM

ألف شكر لك أختي على هذه القصة الرائعة


ماشاء الله عيكي مجهود رائع منك اختي هيفاء


تقبلي تحياتي

هيفاء 21-10-04 10:54 AM

غاليتي سهارى
سعيده جدا بمرورك الكريم
وكل عام وانت بخير

super_man 27-10-04 12:19 AM

مشكورة أختي هيفاء

بجد استمتعت كثير بالقراءة


الله يبارك فيك

هيفاء 27-10-04 02:01 AM

اخي الكريم
كلي سعاده انها اعجبتك
تحيه لك


الساعة الآن 04:53 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.