العودة   منتديات زهرة الشرق > >{}{ منتديات الزهرة الثقافية }{}< > أوراق ثقافية

أوراق ثقافية دروس اللغة العربية - نصوص أدبية - مقالات أدبية - حكم عالمية [أنا البحر في أحشاءه الدر كامن - فهل سألوا الغواص عن صدفاتي]

إضافة رد
 
أدوات الموضوع
قديم 05-01-03, 06:20 PM   #1
 
الصورة الرمزية ابويافا

ابويافا
سفيـر الشـرق

رقم العضوية : 47
تاريخ التسجيل : Jun 2002
عدد المشاركات : 1,031
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ ابويافا
رجال في الشمس / غسان كنفاني


.. تحية /

هذه قصة للأديب الفلسطيني الشهيد : غسان كنفاني ...
سأسردها هنا .. وسأحاول .. وهذا ليس بعهد على أن اقول بنقل كافه قصص الأديب غسان كنفاني "رحمه الله "
الى منتدى القصص والحكايات ...

اتمنى ان اكون وفقت ...

غسان كنفاني


ولد في عكا في التاسع من نيسان عام 1936، وعاش طفولته في - يافا التي اضطر للنزوح عنها كما نزح الآلاف بعد نكبة 1948، وأثر مجزرة دير ياسين التي وقعت في عيد ميلاده الثاني عشر، والتي جعلته ينقطع عن الاحتفال بـ " عيده " منذ ذلك التاريخ.

عاش لفترة قصيرة في جنوب لبنان ثم انتقل مع عائلته إلى دمشق حيث عمل منذ شبابه المبكر في النضال الوطني ، وبدأ حياته العملية معلماً للتربية الفنية في مدارس وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين ( الأنروا ).

انتقل إلى الكويت عام 1956 حيث عمل مدرساً للرسم والرياضة في مدارسها الرسمية. وفي هذه الأثناء عمل في الصحافة وظهرت بدايات إنتاجه الأدبي.

أقام في بيروت منذ 1960 ، وعمل محرراً أدبياً لجريدة " الحرية " الأسبوعية ، ثم أصبح عام 1963 رئيسا لتحرير جريدة " المحرر " كما عمل في " الأنوار " و" الحوادث " حتى عام 1969 ليؤسس بعد ذلك صحيفة " الهدف " التي بقي رئيساً لتحريرها حتى يوم استشهاده في 8 تموز / يوليو 1972 بعد انفجار لغم في سيارته حيث قتل ومعه ابنة شقيقته " لميس نجم " وعمرها 17 عاماً .

يتناول غسان كنفاني في كتاباته معاناة الشعب الفلسطيني في أكثر تجلياتها تعبيراً. " وهو يمثل نموذجاً خاصاً للكاتب السياسي والروائي والقاص والناقد.. "

رواية رجال في الشمس ، التي ننشرها هنا ، أعدت للسينما وحصل الفيلم على عدد من الجوائز في مهرجانات متعددة.

نقلت أعماله إلى ست عشرة لغة، ونشرت في عشرين بلداً. ومن مؤلفاته:

موت سرير رقم 12 ( قصص ) 1961.

أرض البرتقال الحزين ( قصص ) 1963

رجال في الشمس ( رواية ) 1963

عالم ليس لنا ( قصص ) 1965

ما تبقى لكم ( رواية)1966

القبعة والنبي ( مسرحية ) 1967

العاشق ( رواية غير كاملة ) بدأ كتابتها عام 1966

برقون نيسان ( رواية غير كاملة ) 71 - 72

بالإضافة إلى مجموعة من الدراسات والمقالات السياسية والفكرية والنقدية.

حصل على جائزة " أصدقاء الكتاب في لبنان " لأفضل رواية عن روايته " ما تبقى لكم " عام 1966 ، كما نال جائزة منظمة الصحافيين العالمية ( . I.O.J ) عام 1974، ونال جائزة " اللوتس التي يمنحها اتحاد كتاب آسيا وأفريقيا عام 1975.




[gl]أبو قيس [/gl]
أراح أبو قيس صدره فوق التراب الندي، فبدأت الأرض تخفق من تحته: ضربات قلب متعب تطوف في ذرات الرمل مرتجة ثم تعبر إلى خلاياه... في كل مرة يرمي بصدره فوق التراب يحس ذلك الوجيب كأنما قلب الأرض ما زال ، منذ أن استلقى هناك أول مرة، يشق طريقاً قاسياً إلى النور قادماً من أعمق أعماق الجحيم، حين قال ذلك مرة لجاره الذي كان يشاطره الحقل، هناك، في الأرض التي تركها منذ عشر سنوات، أجابه ساخراً:

"هذا صوت قلبك أنت تسمعه حين تلصق صدرك بالأرض "، أي هراء خبيث! والرائحة إذن؟ تلك التي إذا تنشقها ماجت في جبينه ثم انهالت مهومة في عروقه؟. كلما تنفس رائحة الأرض وهو مستلق فوقها خيل إليه أنه يتنسم شعر زوجه حين تخرج من الحمام وقد اغتسلت بالماء البارد.. الرائحة إياها، رائحة امرأة اغتسلت بالماء البارد وفرشت شعرها فوق وجهه وهو لم يزل رطيباً .. الخفقان ذاته: كأنك تحمل بين كفيك الحانيتين عصفورا صغيراً.. الأرض الندية - فكر- هي لا شك بقايا من مطر أمس.. كلا، أمس لم تمطر! لا يمكن أن تمطر السماء الآن إلا قيظاً وغباراً ! أنسيت أين أنت؟ أنسيت؟

دور جسده واستلقى على ظهره حاضنا رأسه بكفيه وأخذ يتطلع إلى السماء: كانت بيضاء متوهجة، وكان ثمة طائر أسود يحلق عالياً وحيدا على غير هدى، ليس يدري لماذا امتلأ، فجأة بشعور آسن من الغربة، وحسب لوهلة أنه على وشك أن يبكي.. كلا، لم تمطر أمس، نحن في آب الآن.. أنسيت؟ كل تلك الطريق المنسابة في الخلاء كأنها الأبد الأسود.. أنسيتها؟ ما زال الطائر يحوم وحيدا مثل نقطة سوداء في ذلك الوهج المترامي فوقه.. نحن في آب ! إذن لماذا هذه الرطوبة في الأرض؟ إنه الشهد ! ألست تراه يترامى على مد البصر إلى جانبك ؟

- " وحين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات، يشكلان نهرا واحدا اسمه شط العرب يمتد من قبل البصرة بقليل إلى...

الأستاذ سليم، العجوز النحيل الأشيب، قال ذلك عشر مرات بصوته الرفيع لطفل صغير كان يقف إلى جانب اللوح الأسود، وكان هو ماراً حينذاك حذاء المدرسة في قريته.. فارتقى حجراً وأخذ يتلصص من الشباك: كان الأستاذ سليم واقفاً أمام التلميذ الصغير وكان يصبح بأعلى صوته وهو يهز عصاه الرفيعة:

- ".. وحين يلتقي النهران الكبيران: دجلة والفرات.. "

وكان الصغير يرتجف هلما فيما سرت ضحكات بقية الأطفال في الصف.. مد يده ونقر طفلا على رأسه فرفع الطفل نظره إليه وهو يتلصص من الشباك:

-"... ماذا حدث؟

ضحك الطفل وأجاب هامساً:

- " تيس !"

عاد، فنزل عن الحجر وأكمل طريقه وصوت الأستاذ سليم ما زال يلاحقه وهو يكرر:

- " وحين يلتقي النهران الكبيران... "

في تلك الليلة شاهد الأستاذ سليم جالساً في ديوانية المختار يقرقر بنرجيلته : كان قد أرسل لقريتهم في يافا كي يعلم الصبية، وكان قد أمضى شطراً طويلاً من حياته في التعليم حتى صارت كلمة أستاذ جزءاً لا يتجزأ من اسمه، وفي الديوانية سأله أحدهم، تلك الليلة:

- ".. وسوف تؤم الناس يوم الجمعة.. أليس كذلك؟ "

وأجاب الأستاذ سليم ببساطة:

- " كلا، إنني أستاذ ولست إماماً... "

قال له المختار:

- " وما الفرق؟ لقد كان أستاذنا إماماً.. "

- " كان أستاذ كتاب، أنا أستاذ مدرسة.. "

وعاد المختار يلح:

- " وما الفرق؟."

لم يجب الأستاذ سليم بل دور بصره من وراء نظارتيه فوق الوجوه، كأنه يستغيث بواحد من الجالسين، إلا أن الجميع كانوا مشوشين حول هذا الموضوع مثل المختار..

بعد فترة صمت طويلة تنحنح الأستاذ سليم وقال بصوت هاديء:

- " طيب، أنا لا أعرف كيف أصلي.. "

- " لا تعرف؟ "

زأر الجميع، فأكد الأستاذ سليم محدداً:

- " لا أعرف ! "

تبادل الجلوس نظرات الاستغراب ثم ثبتوا أبصارهم في وجه المختار الذي شعر بأن عليه أن يقول شيئاً، فاندفع دون أن يفكر:

- ".. وماذا تعرف إذن؟ "

وكأن الأستاذ سليم كان يتوقع مثل هذا السؤال، إذ أنه أجاب بسرعة وهو ينهض:

- " أشياء كثيرة.. إنني أجيد إطلاق الرصاص مثلا.. "

وصل إلى الباب فالتفت، كان وجهه النحيل يرتجف:

- " إذا هاجموكم أيقظوني، قد أكون ذا نفع.. "

***



ها هو إذن الشط الذي تحدث عنه الأستاذ سليم قبل عشر سنوات ! ها هو ذا يرتمي على بعد آلاف من الأميال والأيام عن قريته وعن مدرسة الأستاذ سليم.. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم !.. يا رحمة الله عليك ! لا شك أنك ذا حظوة عند الله حين جعلك تموت قبل ليلة واحدة من سقوط القرية المسكينة في أيدي اليهود.. ليلة واحدة فقط.. يا الله ! أتوجد ثمة نعمة إلهية أكبر من هذه؟.. صحيح أن الرجال كانوا في شغل عن دفنك وعن إكرام موتك.. ولكنك على أي حال بقيت هناك.. بقيت هناك ! وفرت على نفسك الذل والمسكنة وأنقذت شيخوختك من العار .. يا رحمة الله عليك يا أستاذ سليم .. ترى لو عشت، لو أغرقك الفقر كما أغرقني.. أكنت تفعل ما أفعل الآن؟ أكنت تقبل أن تحمل سنيك كلها على كتفيك وتهرب عبر الصحراء إلى الكويت كي " تجد لقمة خبز؟

نهض، واستند إلى الأرض بكوعيه وعاد ينظر إلى النهر الكبير كأنه لم يره قبل ذلك. إذن هذا هو شط العرب: " نهر كبير تسير فيه البواخر محملة بالتمر والقش كأنه شارع في وسط البلد تسير فيه السيارات.. " هكذا صاح ابنه، قيس، بسرعة حين سألة تلك الليلة:

- " ما هو شط العرب؟ "

كان يقصد أن يمتحنه، إلا أن قيس صاح الجواب بسرعة، وأردف قائلا:

- ".. لقد رأيتك تطل من شباك الصف اليوم.. "

التفت إلى زوجه فضحكت، أحس بشيء من الخجل، وقال ببطء:

- " إنني أعرف ذلك من قبل.. "

- " كلا، لم تكن تعرفه.. عرفته اليوم وأنت تطل من الشباك.. "

- " طيب ! وماذا يهمني أن أعرف ذلك أو أن لا أعرفه، هل ستقوم القيامة؟ "

رمقته زوجته من طرف عينيها ثم قالت:

- " اذهب والعب يا قيس في الغرفة الأخرى... "

وحين صفق الباب خلفه قالت لزوجها:

- " لا تحكي أمامه بهذا الشكل، الولد مبسوط لأنه يعرف ذلك، لماذا تخيب أمله؟ "

قام واقترب منها ثم وضع كفه على بطنها وهمس:

- " متى ؟ "

-" بعد سبعة أشهر "

- " أوف !"

- " نريد بنتا هذه المرة.. "

- " كلا ! نريد صبياً ! صبياً ! "

***


ولكنها أنجبت بنتاً سماها "حسنا " ماتت بعد شهرين من ولادتها وقال الطبيب مشمئزاً: " لقد كانت نحيلة للغاية ! "

كان ذلك بعد شهر من تركه قريته ، في بيت عتيق يقع في قرية أخرى بعيدة عن خط القتال :

- " يا أبا قيس، أحس بأنني سألد ! "

- " طيب، طيب، اهدئي "

وقال في ذات نفسه :

وربما نبني غرفة في مكان ما ..

- " بودي لو تلد المرأة بعد مئة شهر من الحمل ! أهذا وقت ولادة ؟ "

- " يا إلهي ! "

- " ماذا؟ "

- " سألد "

- " أأنادي شخصاً ؟ "

- " أم عمر"

- " أين أجدها الآن؟ "

- " ناولني هذه الوسادة.."

- " أين أجد أم عمر؟ "

- " يا إلهي.. ارفعني قليلا، دعني أتكىء على الحائط.. "

- " لا تتحركي كثيراً، دعيني أنادي أم عمر.. "

- " أسرع... أسرع.. يا رب الكون ! "

هرول إلى الخارج، وحين صفق وراءه الباب سمع صوت الوليد، فعاد وألصق أذنه فوق خشب الباب..

صوت الشط يهدر، والبحارة يتصايحون، والسماء تتوهج والطائر الأسود ما زال يحوم على غير هدى.

قام ونفض التراب عن ملابسه ووقف يحدق إلى النهر..

أحس، أكثر من أي وقت مضى، بأنه غريب وصغير، مرر كفه فوق ذقنه الخشنة ونفض عن رأسه كل الأفكار التي تجمعت كجيوش زاحمة من النمل.

وراء هذا الشط، وراءه فقط ، توجد كل الأشياء التي حرمها.

هناك توجد الكويت.. الشيء الذي لم يعش في ذهنه إلا مثل الحلم والتصور يوجد هناك.. لا بد أنها شيء موجود، من حجر وتراب وماء وسماء، وليست مثلما تهوم في رأسه المكدود.. لا بد أن ثمة أزقة وشوارع ورجالاً ونساء وصغاراً يركضون بين الأشجار.. لا.. لا.. لا توجد أشجار هلاك.. سعد، صديقه الذي هاجر إلى هناك واشتغل سواقا وعاد بأكياس من النقود قال إنه لا توجد هناك أية شجرة.. الأشجار موجودة في رأسك يا أبا قيس.. في رأسك العجوز التعب يا أبا قيس.. عشر أشجار ذات جذوع معقدة كانت تساقط زيتونا وخيرا كل ربيع.. ليس ثمة أشجار في الكويت، هكذا قال سعد.. ويجب أن تصدق سعدا لأنه يعرف أكثر منك رغم أنه أصغر منك.. كلهم يعرفون أكثر منك.. كلهم. في السنوات - العشر الماضية لم تفعل شيئاً سوى أن تنتظر.. لقد أحتجت إلى عشر سنوات كبيرة جائعة كي تصدق أنك فقدت شجراتك وبيتك وشبابك وقريتك كلها.. في هذه السنوات الطويلة شق الناس طرقهم وأنت مقع ككلب عجوز في بيت حقير.. ماذا تراك كنت تنتظر؟ أن تثقب الثروة سقف بيتك.. بيتك؟ إنه ليس بيتك.. رجل كريم قال لك: أسكن هنا ! هذا كل شيء وبعد عام قال لك أعطني نصف الغرفة، فرفعت أكياسا مرقعة من الخيش بينك وبين الجيران الجدد..[



توقيع : ابويافا
.

التعديل الأخير تم بواسطة ابويافا ; 05-01-03 الساعة 06:54 PM
ابويافا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-01-03, 06:22 PM   #2
 
الصورة الرمزية ابويافا

ابويافا
سفيـر الشـرق

رقم العضوية : 47
تاريخ التسجيل : Jun 2002
عدد المشاركات : 1,031
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ ابويافا

[تتمة القصة ]
-------------------------------------------

وبقيت مقعيا حتى جاءك سعد وأخذ يهزك مثلما يهز الحليب ليصير زبداً.. "

- " إذا وصلت إلى الشر بوسعك أن تصل إلى الكويت بسهولة، البصرة مليئة بالأدلاء الذين يتولون تهريبك إلى هناك عبر الصحراء.. لماذا لا تذهب؟ "

سمعت زوجته كلام سعد فنقلت بصرها بين وجهيهما وأخذت تهدهد طفلها من جديد.

- " إنها مغامرة غير مأمونة العواقب؟ "

- " غير مأمونة العواقب؟ ها ! ها ! أبو قيس يقول، غير مأمونة العواقب.. ها ها " !

ثم نظر إليها وقال:

- " أسمعت ما يقول زوجك؟ غير مأمونة العواقب ! كأن الحياة شربة لبن ! لماذا

لا يفعل مثلنا ؟ هل هو أحسن؟..

لم ترفع بصرها إليه، وكان هو يرجو أن لا تفعل..

- " أتعجبك هذه الحياة هنا؟ لقد مرت عشر سنوات وأنت تعيش كالشحاذ..

حرام ! ابنك قيس، متى سيعود للمدرسة؟ وغدا سوف يكبر الآخر.. كيف ستنظر إليه وأنت لم... "

- " طيب ! كفى ! "

- لا ! لم يكف ! حرام ! أنت مسؤول الآن عن عائلة كبيرة، لماذا لا تذهب إلى هناك . ما رأيك أنت ؟

زوجته ما زالت صامتة وفكر هو: " غدا سيكبر هو الآخر.. " ولكنه قال:

- " الطريق طويلة، وأنا رجل عجوز ليس بوسعي أن أسير كما سرتم أنتم.. قد أموت .. "

لم يتكلم أحد في الغرفة زوجته ما زالت تهدهد طفلها ، وكف سعد عن الإلحاح ولكن الصوت ! انفجر في رأسه هو :

- " تموت؟ هيه ! من قال أن ذلك ليس أفضل من حياتك الآن ؟ منذ عشر سنوات وأنت تأمل أن تعود إلى شجرات الزيتون العشر التي امتلكتها مرة في قريتك... قريتك ! هيه ! "

عاد فنظر إلى زوجته :

- " وماذا ترين يا أم قيس؟ "

حدقت إليه وهمست:

" كما ترى أنت.. "

" سيكون بوسعنا أن نعلم قيس.. "

- " نعم " ..

- " وقد نشتري عرق زيتون أو اثنين.. "

- " طبعاً ! "

- " وربما نبني غرفة في مكان ما.."

- " أجل "

- " إذا وصلت.. إذا وصلت.."

كف، ونظر قليلا ثم ستنساب دمعة واحدة تكبر رويداً رويداً ثم تنزلق فوق خدها المغضن الأسمر.. حاول أن يقول شيئاً، ولكنه لم يستطع، كانت غصة دامعة تمزق حلقه.. غصة ذاق مثلها تماما حين وصل إلى البصرة وذهب إلى دكان الرجل السمين الذي يعمل في تهريب الناس من البصرة إلى الكويت، وقف أمامه حاملا على كتفيه كل الذل وكل الرجاء اللذين يستطيع رجل عجوز أن يحملهما.. وكان الصمت مطبقاً مطنا حين كرر الرجل السمين صاحب المكتب:

- " إنها رحلة صعبة، أقول لك، ستكلفك خمسة عشر ديناراً ".

- " وهل تضمن أننا سنصل سالمين؟

- " طبعاً ستصل سالماً، ولكن ستتعذب قليلا، أنت تعرف، نحن في آب الآن، الحر شديد والصحراء مكان بلا ظل.. ولكنك ستصل.."

كانت الغصة ما تزال في حلقه، ولكنه أحس أنه إذا ما أجل ذلك الذي سيقوله فلن يكون بوسعه أن يلفظه مرة أخرى:

- " لقد سافرت آلافا من الأميال كي أصل إليك، لقد أرسلني سعد، أتذكره؟ ولكنني لا أملك إلا خمسة عشر ديناراً، ما رأيك أن تأخذ منها عشرة وتترك الباقي لي؟ "

قاطعه الرجل:

- " إننا لا نلعب.. ألم يقل لك صديقك أن السعر محدود هنا؟ إننا نضحي بحياة الدليل من أجلكم.. "

- " ونحن أيضا نضحي بحياتنا.. "

- " إنني لا أجبرك على هذا "

- " عشرة دنانير؟ "

- " خمسة عشر ديناراً.. ألا تسمع؟ "

لم يعد بوسعه أن يكمل، كان الرجل السمين الجالس وراء كرسيه، المتصبب عرقاً، يحدق إليه بعينين واسعتين وتمني هو لو يكف الرجل عن التحديق، ثم أحس بها، ساخنة تملأ مؤقه وعلى وشك أن تسقط.. أراد أن يقول شيئاً لكنه لم يستطع، أحس أن رأسه كله قد امتلأ بالدمع من الداخل فاستدار وانطلق إلى الشارع، هناك بدأت المخلوقات تغيم وراء ستار من الدمع. اتصل أفق النهار بالسماء وصار كل ما حوله مجرد وهج أبيض لا نهائي. عاد، فارتمى ملقيا صدره فوق التراب الندي الذي أخذ يخفق تحته من جديد.. بينما انسابت رائحة الأرض إلى أنفه وانصبت في شرايينه كالطوفان.




--------------------------

أتمنى أن أكون قد وفقت في النقل ....




ابويافا .


توقيع : ابويافا
.

ابويافا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-01-03, 05:38 PM   #3
 
الصورة الرمزية lonely

lonely
زهرة الشرق

رقم العضوية : 11
تاريخ التسجيل : Jun 2002
عدد المشاركات : 4,578
عدد النقاط : 508

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ lonely

.




رائع جدا أخي أبويافا . . .


أحسنت في الاختيار الراقي والنقل المفيد والجميل








مع محبتيlonely


توقيع : lonely

lonely غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 27-01-03, 05:23 PM   #4
 
الصورة الرمزية صقر الشرق

صقر الشرق
العضوية الفضية

رقم العضوية : 177
تاريخ التسجيل : Jul 2002
عدد المشاركات : 686
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ صقر الشرق

أحسنت أخي الكيم في هذه النقل الرائع


دمت رائع




لك أيها الشامخ


توقيع : صقر الشرق
جربوا أن تروا الدنيا من فوق الافق

صقر الشرق غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 31-01-03, 12:21 PM   #5
 
الصورة الرمزية أوراق عاشقة

أوراق عاشقة
سفيرة زهرة الشرق

رقم العضوية : 316
تاريخ التسجيل : Aug 2002
عدد المشاركات : 1,376
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ أوراق عاشقة

رائع أخي الفاضل ..

سلمت يمناك على هذا الاختيار المتميز ..

يعطيك العافية ..

لك


أوراق عاشقة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 31-01-03, 07:10 PM   #6
 
الصورة الرمزية حياة

حياة
المراقبة العامة

رقم العضوية : 540
تاريخ التسجيل : Dec 2002
عدد المشاركات : 16,580
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ حياة

الله يعطيك العافيه ابو يافا


على اختيارك غسان كنفاني

لك


حياة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-02-03, 12:52 AM   #7

هاوي
جيل الرواد

رقم العضوية : 367
تاريخ التسجيل : Sep 2002
عدد المشاركات : 3,888
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ هاوي

السلام عليكم 0000

الف شكر لك اخي الفاضل ابو يافا

على نقل هذه القصة الرائعة ... سلمت لنا اخي ..





هـــــــاوي


توقيع : هاوي
[align=center]هــ وي ـــا[/align]



zahrah.com

هاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-05-03, 11:17 PM   #8
 
الصورة الرمزية سهارى

سهارى
خطوات واثقة

رقم العضوية : 68
تاريخ التسجيل : Jun 2002
عدد المشاركات : 192
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ سهارى

ماشاء الله عليك


مشاركة فعالة جدا جدا ومفيدة

حفظك الله أخي أبويافا


مع التحية


توقيع : سهارى

سهارى غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-10-09, 06:04 PM   #9
 
الصورة الرمزية هيام1

هيام1
مشرفة أقسام المرأة

رقم العضوية : 7290
تاريخ التسجيل : Apr 2007
عدد المشاركات : 15,155
عدد النقاط : 197

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ هيام1
رد: رجال في الشمس / غسان كنفاني


[align=center] موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .
مبدع[/align]


توقيع : هيام1
قطرة الماء تثقب الحجر ، لا بالعنف ولكن بدوام التنقيط.


زهرة الشرق

هيام1 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:42 PM

Powered by vBulletin® Version 3.8.12 by vBS
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions Inc.

زهرة الشرق   -   الحياة الزوجية   -   صور وغرائب   -   التغذية والصحة   -   ديكورات منزلية   -   العناية بالبشرة   -   أزياء نسائية   -   كمبيوتر   -   أطباق ومأكولات -   ريجيم ورشاقة -   أسرار الحياة الزوجية -   العناية بالبشرة

المواضيع والتعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي منتديات زهرة الشرق ولا نتحمل أي مسؤولية قانونية حيال ذلك

(ويتحمل كاتبها مسؤولية النشر)