عرض مشاركة واحدة
قديم 21-01-09, 02:31 AM   #13
 
الصورة الرمزية حسين الحمداني

حسين الحمداني
هيئة دبلوماسية

رقم العضوية : 11600
تاريخ التسجيل : Sep 2008
عدد المشاركات : 5,724
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ حسين الحمداني
رد: السيدة خديجة بنت خويلد



في انتظار الوحي

على موعد يا محمد (ص) .. تلك مكّة .. وهذا العالم في انتظار البشارة وأن يتحقّق الدعاء .. دعاء أبي الأنبياء الكبير .. خليل الرّحمن ابراهيم (ع) .. العالم ينتظر ، والتأريخ يفتح آفاقه ، والبيت الحرام يشكو وثنيّة المشركين .. العالم بانتظار أن تُجاب الدعوة .. دعوة ابراهيم يوم رفع يديه بالدعاء ، وهو يُسكن هاجر واسماعيل (ع) ، جدّ قريش ، عند الحرم الآمن :
(ربّنا إنِّي أسكنتُ من ذرِّيّتي بواد غير ذي زرع عند بيتِكَ المحرّم ربّنا ليُقيموا الصّـلاة فاجعل أفئِدَة مِنَ الناسِ تهـوي إليهِم وارزقهُم مِنَ الثمرات لعلّهم يشكرون)(ابراهيم/37).
(ربّنا وابعَث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتكَ ويُعلِّمهم الكتابَ والحكمةَ ويُزكِّيهم ، إنّك أنتَ العزيز الحكيم ) ( البقرة / 129 ) .
وبعد سنين من البعثة ، يكشف القرآن عن هذه الإجابة بقوله :
(هو الّذي بعثَ في الاُمِّيِّـين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويُزكِّيهم ويُعلِّمهم الكتابَ والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مُبين ) ( الجمعة / 2 ) .
ويؤكِّد الرسول (ص) هذه الحقيقة بقوله : ( أنا دعوة أبي إبراهيم) .
ففي دعاء ابراهيم الملهم ، بيان للأحداث وتخطيط لمستقبل البشرية ، وبشارة بمحمد (ص) ووعد العرب بالانتظار .. ابتدأ المسار يوم نفذت الحكمة الإلهية على يدي ابراهيم (ع) ، إذ ينطلق من أرض بابل إلى بلاد الشام ، لتقوده دعـوة التوحيد إلى مصر فتقترن به هاجر .. ليعود بها إلى أرض الحرم ولتكون اُمّاً لاسماعيل (ع) ومحمد (ص) ، فيستقرّ بها وباسماعيل المقام حول زمزم .. حول الحرم الآمِن .. ويدرج اسماعيل في ذلك الرحاب وينشأ في بيئة العرب .. وها هو صبيّ قد بلغ السّعي . ثمّ يجتاز الامتحان الإلهي الصّعب .. امتحان الذّبح . ليؤسِّس مع أبيه البيت الحرام ، ليكون مثابة للناس وأمناً ، ومناراً للتوحيد ومَعْلَماً للحق ..
يُسجِّل القرآن كل تلك الأحداث بقوله :
(وإذ يرفع ابراهيم القواعد من البيتِ واسماعيل ربّنا تقبّل منّا إنّكَ أنتَ السّميع العليم * ربّنا واجعلنا مُسلِمَينِ لكَ ومِن ذرِّيّتنا اُمّةً مسلمة لكَ وأرِنا مناسكنا وتُب علينا إنّكَ أنتَ التوّاب الرّحيم ) ( البقرة / 127 ـ 128 ) .
(وإذ ابتلى إبراهيمَ ربُّهُ بكلمات فأتمّهنَّ قالَ إنِّي جاعِلُكَ للناسِ إماماً قالَ ومِن ذرِّيّتي قالَ لا ينال عهدي الظّالمين ) ( البقرة / 124 ) .
وإذاً ، فالعالم بانتظار محمد (ص)، نبيّ من وُلدِ اسماعيل، من مكّة المكرّمة ، فتُبشِّر به التوراة والإنجيل :
(النبيّ الاُمِّيّ الّذي يجـدونهُ مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ... )(الأعراف/157).
(ومُبَشِّراً بِرَسول يأتي مِن بعدي اسمهُ أحمد ... ) ( الصّف / 6 ) .
وتعتزّ قريش بأنّها من ذرِّية ابراهيم ، وكثيراً ما يُكرِّر أصحاب الرأي والفخر فيها كلمة ( أبونا ابراهيم) ، ويُثبِّت القرآن ذلك بقوله : (ملّةَ أبيكُم إبراهيم ) ( الحج / 78 ) .
لقد آنَ الأوان أن تُجاب دعوة ابراهيم الملهمة ، وأن يرسل الله سبحانه محمداً (ص) .. الذي قال لقومه : ( أنا دعوة أبي ابراهيم) .
لقد آن الأوان لبعـثة خاتم الأنبياء،فالأرض تغطّ في سحب الظلام،وصيحات المعذّبين تتعالى في الآفاق،والطغيان يملأ رحاب الأرض،ودعوة التوحيد قد حُرِّفت معالمها،فارتدّ الناس إلى الجهل والخرافة..إلى عبادة الأوثان،إلى الشِّرك والجاهلية..إلى القول بأنّ الله ثالث ثلاثة .. إلى الاعتقاد بأنّ عُزيراً ابن الله .. وأنّ المسيح ابن الله ، إلى عقيدة التجسيم والحلول ..
لم يكن بعث محمد (ص) أمراً مفاجئاً له ، كما تُصـوِّر بعض الروايات المحرّفة ذلك ، ولم تبدأ النبوّة بهبوط جبرئيل (ع) في غار حراء ، وقراءته على محمد (ص) : (إقرأ باسم ربِّكَ الّذي خَلَق ... ) ( العلق/ 1 ) .
لقد كان محمـد (ص) يُعدُّ ويُهيّأ للنبـوّة ، كما هيِّئت وأعدّت أذهان البشرية ، لا سيّما أصحاب الكتب السـماوية لهذا الحدث العظيم .. لذا كان اتجاه محمد (ص) إلى غار حراء للتحنّث والتعبّد والتأمّل ولإنتظار الحدث العظيم ، لانتظار الوحي والرسالة .
حدّث المؤرِّخون وكتّاب السيرة ، وجاءت الأخبار والروايات أنّ رسول الله (ص) لم يُفاجأ بالوحي ، بل أوّل ما بدئ بالرؤيا الصالحة .. وهي اُولى درجات الوحي والنبوّة .. جاء عن الامام أبي جعفر الباقر (ع) : ( الرسول الذي يأتيه جبرئيل (ع) قُبلاً فيراه ويُكلِّمه ، فهذا الرسول ، وأمّا النـبيّ فهو الذي يرى في منامـه نحو رؤيا ابراهيم (ع) ، ونحو ما كان رأى الرسول (ص) من أسباب النبوّة قبل الوحي ، حتى أتاه جبرئيل من عند الله بالرسالة ، وكان محمد (ص) حين جمع له النبوّة ، وجاءته الرسالة من عند الله ، يجيئه بها جبرئيل (ع) ، ويُكلِّمه بها قُبلاً . ومن الأنبياء مَن جمع له النبوّة ، ويرى في منامه ، ويأتيه الروح ، ويُكلِّمه ويُحدِّثه من غير أن يكون يرى في اليقظة ، وأمّا المحدَّث ، فهو الذي يُحدَّث فيسمع ولا يُعايِن ولا يرى في منامه) (39) .
وبذا يتّضح أنّ الرسول محمداً (ص) كان يرى من أسباب النبوّة في المنام قبل نزول الوحي في غار حراء ما يؤكِّد له ذلك .
وروت عائشة : ( أنّ أوّل ما بدئ به رسول الله (ص) من الوحي ، الرؤيا الصالحة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ، ثمّ حُبِّب إليه الخلاء ، وكان يخلو بغار حراء ، فيتحنّث فيه ، وهو تعبُّد الليالي ذوات العدد ، قبل أن ينزع إلى أهله ، ويتزوّد لذلك ، ثمّ يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها حتى جاءه الحق ، وهو في غار حراء ... ) (40) .
وقال العلاّمة المجلسي : ( إعلم أنّ الذي ظهر لي من الأخبار المعتبرة ، والآثار المستفيضة ، هو أ نّه (ص) كان قبل بعثته قد أكمل الله عقله في بدو سنِّه نبياً مؤيّداً بروح القدس ، يُكلِّمـه الملك ، ويسمع الصوت ، ويرى في المنام ، ثمّ بعد أربعين سنة صار رسولاً ، وكلّمه الملك معاينـة ، ونزل عليه القرآن ، واُمِرَ بالتبليغ ... ) (41) .
وهكذا كان محمد (ص) يجاور ويتعبّد منتظراً البشارة والكرامة الإلهية .. وهكذا كانت خديجة تشهد بداية الحدث العظيم يجري في بيتها ، وتشهد التحوّل في حـياة زوجها النبيّ (ص) ، تُشاهد ميله إلى الوحدة وحبّ الانفراد، والانفتاح على عالم الغيب ، والتأمّل في ملكوت السماوات والأرض ، وأ نّه ليبقى على تلك الحال اللـيالي والأيام ، يتعبّد ويتحنّـث ، ويتزوّد من القُرب والتكامل ، ويتهيّأ لاستقبال البشارة وحمل الأمانة .. وإنّ خديجة تقف إلى جانب محمد (ص) تعدّ له الطعام ، وتزوِّده بالماء حين يذهب إلى غار حراء ، وتوفِّر له الأجواء العائلية المنسجمة ، وتُعينه على أداء المهمّة .
كشف كتاب السير أنّ النبيّ (ص) قد حدّث خديجة عن رؤيا في المنام قد رأى فيها المـلَك ، يحدِّثـه ويلقي إليه . فهي إذاً كانت تُعايش بدايات الوحي ، وترقب بأمل ما سينتهي إليه أمر تلك البشارات .
فعن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، قال : «فيما بلغنا أوّل ما رأى رسول الله (ص) أنّ الله تعالى أراه رؤياً في المنام ، فشقّ ذلك عليه ، فذكرها لامرأته خديجـة ، فعصمها الله عن التكذيب ، وشرح صدرها للتصديق ، فقالت: أبشِر فانّ الله لم يصنع بك إلاّ خيراً ، ثم رجع فأخبرها أنّه رأى بطنه شُقّ ثم غُسِلَ وطُهِّر،ثم اُعيد لما كان،قالت:هذا والله خير، فأبْشِر» (42).
روت عائشة قائلة: (وحبّب الله تعالى إليه الخلوة،فلم يكن شيء أحبّ إليه من أن يخلو وحده)(43).


حسين الحمداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس