عرض مشاركة واحدة
قديم 20-01-09, 04:13 AM   #11
 
الصورة الرمزية حسين الحمداني

حسين الحمداني
هيئة دبلوماسية

رقم العضوية : 11600
تاريخ التسجيل : Sep 2008
عدد المشاركات : 5,724
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ حسين الحمداني
رد: السيدة خديجة بنت خويلد


الخطبة والزواج

بدأت مرحلة جديدة في حياة خديجة (رض) .. مرحلة التفكير الجدِّي بالاقتران بمحمد (ص) والبحث عن طريق للوصول إليه ، وعرض الفكرة عليه ، علّه يستجيب فتتحقّق الآمال الكبار التي ولدت في نفس خديجة (رض) .
وتحدّث المؤرِّخون في روايتـين مختلفتين عن كيفية عرض الطلب على محمد (ص) ، فابن هشام يذكر في كتابه السيرة النبوية أنّ خديجة هي التي بعثت إلى محمد (ص) ، وطلبت منه اللقاء ، فعرضت عليه موضوع الزواج . ونقل عبارات خديجة الدالّة على نضج هذه الشـخصية ، ومستوى وعيها الاجتماعي ، وفهمها لمواصفات الرجل المؤهّل الذي تختاره الزوجة شريكاً لحياتها .. وتشكِّل هذه الخطوبة ، خطوبة خديجة لمحمد (ص) وطلب الاقتران به في سيرة رسول الله (ص) ، أساساً تشريعياً لاعطاء المرأة العاقلة الرشيدة الحق في أن تخطب الزوج وتبدأ بالخطبة .
فالأحداث ، وإن وقعت قبل النبوّة ، إلاّ أنّ الرسول (ص) لم يفعل شيئاً قبل النبوّة مخالفاً لما بعدها ، لذا نرى التشريع الاسلامي بعد النبوّة يثبِّت هذا الحق، ولم يشترط أن يبدأ الرجل بالخطبة ، وإن جرت الأعراف الاجتماعية على ذلك .
نقل ابن هشام نصوص العرض والخطبة التي خاطبت خديجة بها النبيّ (ص) ، وهي تطلب منه الموافقة على الزواج منها ، قال : (بعثت إلى رسول الله (ص) فقالت له ـ فيما يزعمون ـ يابن عم ، إنِّي قد رغبتُ فيك لقرابتك وسطتك(12) في قومك ، وأمانتك وحُسن حديثك ، ثمّ عرضت عليه نفسها ، وكانت خديجة يومئذ أوسط نساء قريش نسباً وأعظمهنّ شرفاً ، وأكثرهنّ مالاً ، كلّ قومها كان حريصاً على ذلك منها ، لو يقدر عليه) (13) .
من هذه المبادئ ، انطلقت خديجة في اختيار زوجها .. انطلقت من قيم الأخلاق وكمال الشخصية .. ولم تنطلق من طلب الثروة والمال رغم انّها من أثرى تجّار مكّة وأغنيائها ..
وتتحدّث رواية أخرى أنّ خديجة (رض) لم تُخاطب محمداً (ص) خطاباً مباشراً بعرضها الزواج منه ، بل أرسلت إحدى النساء وسيطة في ذلك ، وهي نفيسة بنت منية .
قال ابن الأثير: (... فأرسلت إلى رسول الله (ص) ، فعرضت عليه نفسها .. وكان الرسول بين خديجة ، وبين النبيّ (ص) نفيسة بنت منية ، أخت يعلى ابن منية . وأسلمت يوم الفتح . فبرّها رسول الله (ص) وأكرمها ) (14) .
ونقل ابن سعد في الطبقات تفصيلاً لهذه الوساطة ، فقال : (أخبرنا محمد ابن عمر بن واقد الأسـلمي ، أخبرنا موسى بن شـيبة ، عن عميرة بنت عبيدالله بن كعب بن مالك ، عن أم سعد بنت سعد بن الربيع ، عن نفيسة بنت منية ، قالت : كانت خديجـة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزّى بن قصي امرأة حازمة ، جلدة ، شريفة ، مع ما أراد الله بها من الكرامة والخير ، وهي يومئذ أوسط قريش نسـباً ، وأعظمهم شرفاً ، وأكثرهم مالاً ، وكلّ قومها كان حريصاً على نكاحها ، لو قدر على ذلك ، قد طلبوها وبذلوا لها الأموال ، فأرسلتني دسيساً إلى محمد ، بعد أن رجع في عِيرها من الشام ، فقلت : يا محمد ! ما يمنعك أن تتزوّج ؟ فقال : ما بيدي ما أتزوّج به ، قلت : فإن كفيت ذلك ، ودعيت إلى الجمال والمال والشرف والكفاءة ، ألا تُجيب ؟ قال : فمَن هي ؟ قلت : خديجة ، قال : وكيفَ لي بذلك ؟ قلت : عليَّ ، قال : فأنا أفعل ، فذهبتُ فأخـبرتها ، فأرسـلت إليه أن أئتِ لساعة كذا وكذا ... » (15) .
وهكذا توفّر الرِّضا ، وتهيّأت الأجواء لاقتران خديجة بمحمد (ص) ، زوجةً وعوناً ، تمنحه حبّها ، ويمنحها الحبّ الصادق الطّهور ، لبناء الاُسرة النموذجية الفريدة في عالم الانسان .. وإذاً فلتبدأ الخطوبة بشكلها العُرفي المألوف في المجتمع .
إنطلق محمد (ص) ، وحدّث أعمامه بعرض خديجة ، وطلبها الزواج منه ، ليتوجّه وفد بني هاشم إلى بيت خديجة (رض) خاطباً ، وطالباً تزويجها بمحمد (ص) .. استجاب أعمامه دونما اعتراض أو مناقشة ، فخديجة ليست من النساء اللّواتي يُناقش سادة بني هاشم في تزويجها من محمد (ص) .. انطلق أبو طالب وحمزة في وفد إلى بيت خديجة، واستقرّ المجلس بالحاضرين، فراحَ أبو طالب يوجِّه الطلب إلى خديجة وعمِّها عمرو بن أسد ، فأبوها كان توفِّي قبل حرب الفِجار .
قال ابن الأثير في البداية والنهاية : (قال المؤملي : المجتمع عليه أنّ عمّها عمرو بن أسد هو الذي زوّجها منه، وهذا هو الذي رجّحه السهيلي ، وحكاه عن ابن عباس وعائشة . قالت : وكان خويلد مات قبل الفِجار ... ) (16) .
بدأ أبو طالب حديثه وإلقاء الخطبة في المجلس الذي ضمّ وجوه قريش وبني هاشم ، فقال : ( الحمد لله الذي جعلنا من ذرِّية ابراهيم واسماعيل ، وضئضئ معد ، أي معدنه ، وعنصر مضر ، أي أصله ، وجعلنا حضنة بيته ، أي المتكفِّلين بشأنه ، وسُوّاس حرمه ، أي القائمين بخدمته ، وجعله لنا بيتاً محجوجاً ، وحرماً آمناً ، وجعلنا حكّام الناس ، ثمّ انّ ابن أخي هذا محمد بن عبدالله لا يوزَن به رجل إلاّ رجح عليه شرفاً ونُبلاً وفضلاً وعقلاً ، وإن كان في المال ، فانّ المال ظلّ زائل ، وأمر حائل ، وعارية مُسترجَعة ، وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم ، وخطر جليل ، وقد خطب إليكم رغبة في كريمتكم خديجة ، وقد بذل لها من الصِّداق ما عاجله وآجله اثنتا عشرة أوقية ونشّاً ، وهو عشرون درهماً ، والأوقية أربعون درهماً ، وكانت الأواقي والنش من ذهب ، كما قال المحبّ الطـبري ، أي فيكون جملة ، الصِّداق خمسمائة درهم شرعي ، وقيل أصدقها عشرين بكرة ، أي كما تقدّم .. (أقول) لا منافاة لجواز أن تكون البكرات عوضاً عن الصِّداق المذكور ، (وقال بعضهم) يجوز أن يكون أبو طالـب أصدقها ما ذكر وزاد صلّى الله عليه وآله وسلّم من عنده تلك البكرات في صِداقها ، فكان الكل صادقاً ، والله أعلم .
قال : وعند ذلك ، قال عمّها عمرو بن أسد : هو الفحل لا يُقدع أنفـه،وأنكحها منه)(17).
وتتحدّث الروايات عن أنّ عمر رسول الله (ص) كان عند زواجه من خديجة (رض) هو خمساً وعشرين سنة ، وهي أوّل امرأة تزوّجها .. وكان ذلك قبل تجديد قريش بناء الكعبة الذي حلّ فيه رسول الله (ص) مشكلة الحجر الأسود .
وتفيد أكثر الروايات أنّ عمر خديجة (رض) كان عند زواجها من النبيّ (ص) هو أربعين سنة . وتتحدّث روايات أخرى عن أنّ عمر خديجة كان عند زواجها من النبيّ (ص) خمساً وعشرين سنة . وتقول أخرى أنّ عمرها ثمان وعشرون سنة .
ونقل ابن الأثير:(عن البيهقي،عن الحاكم،أ نّه كان عمر رسول الله (ص) حين تزوّج خديجة خمساً وعشرين سنة،وكان عمرها آنذاك خمساً وثلاثين سنة،وقيل خمساً وعشرين سنة)(18).
ونقل ابن الأثير ما يؤيِّد أنّ عمر خديجة (رض) كان خمساً وعشرين سنة عند تزوّجها من رسول الله (ص) ، فقد روى ما نصّه : (قال البيهقي ، عن الحاكم ، قرأتُ بخطِّ أبي بكر بن أبي خيثمة : حدّثنا مصعب بن عبدالله الزبيري ، قال : ... وبلغت خديجة خمساً وستين سنة ، ويُقال خمسين سنة ، وهو أصح) (19) .
فتصحيح القول بأنّ عمرها (رض) كان خمسين سنة عند وفاتها ، يؤيِّد الرواية القائلة أنّها تزوّجت رسول الله (ص) وعمرها خمس وعشرون سنة ، ذلك لأ نّها عاشت معه (ص) خمساً وعشرين سنة ، خمس عشرة سنة منها قبل البعثة ، وعشراً بعدها .
ونقل الأربلي : (وعن ابن عباس أنّه (ص) تزوّجها ، وهي ابنة ثماني وعشرين سنة ، ومهرها النبيّ(ص)اثنتي عشرة أوقية ، وكذلك كانت مهور نسائه،وقيل:أنّها ولدت قبل الفيل بخمس عشرة سنة،وتزوّجها وهي بنت أربعين سنة،ورسول الله ابن خمس وعشرين سنة)(20).
ونقل الأربلي أيضاً : (وقال ابن حمّاد : بلغني أنّ رسول الله (ص) تزوّج خديجة على اثنتي عشرة أوقية ذهباً، وهي يومئذ ابنة ثماني وعشرين سنة)(21).
وهكذا تتحدّث الروايات مختلفة في عمر خديجة عند زواجها من النبيّ (ص) ، فهي تتراوح بين الأربعين ، والخمس والثلاثين ، والثمان والعشرين ، والخمس والعشرين سنة ..
وتذكر الروايات أنّ صِداق نساء رسول الله وبناته كان خمسمائة درهم .. روى حمّاد بن عيسى،عن أبي عبدالله جعفر بن محمد الصادق(ع) :قال:(سمعتهُ يقول:قال أبي:ما زوّج رسول الله(ص)سائر بناته،ولا تزوّج شيئاً من نسائه على أكثر من اثنتي عشرة أوقية ونش)(22).
وثمّة مسألة أخرى تحدّثت الروايات عنها ، وهي : هل تزوّجت خديجة برسول الله (ص) وهي عذراء ، أو تزوّجها وهي أرملة ؟
اختلفت الروايات في ذلك ، فبعضها تتحدّث عن أنّ خديجة (رض) كانت قد تزوّجت قبل النبيّ (ص) ، وقال آخرون أنّ النبيّ (ص) تزوّج خديجة عذراء .
فقد جاء في بعض الروايات :
(تزوّج بمكّة أوّلاً خديجة بنت خويلد،قالوا وكانت عند عتيق بن عائذ المخزومي،ثمّ عند أبي هالة زرارة بن نباش الأسدي،وروى أحمد البلاذري وأبو القاسم الكوفي في كتابيهما، والمرتضى في الشافي،وأبو جعفر في التلخيص،أنّ النبيّ(ص)تزوّج بها،وكانت عذراء)(23).
وجاء في السياق الآنف الذكر نفسه : (وتزوّج (ص) عائشة بنت أبي بكر ، وهي ابنة سبع قبل الهجرة بسنتين ، ويقال : كانت ابنة ست ودخل بها بالمدينة في شوّال ، وهي ابنة تسع ، ولم يتزوّج غيرها بكراً ) (24) .
لقد تمّ الزواج ، وطلبت خديجة من محمـد (ص) أن ينتقل إلى بيتها ، ليعيش معها في ذلك البيت السعيد ، بين الحبّ والوفاء . فإنّه أعظم بيت بُنيَ على سطح هذه الأرض . لقد جسّدت خديجة خلق المرأة المثالية في علاقتها مع زوجها من الحبّ والوفاء والبذل والعـطاء ، والوقـوف إلى جنبه حين اشتدّت المحنة عليه ، إنّ النبيّ (ص) يُبادلها مشاعر الحبّ والاحترام ويردِّد بعد وفاتها قوله المشهور : «إنِّي لأحبّ حبيبها» .
لقد شاركتهُ شطرين من الحياة ، شطر الدِّعة والراحة والاستقرار ، وشطر الدعوة والكفاح والجهاد والحصار . فكانت هي خديجة في ظروف المحنة وقساوة الجهاد ، لا تزداد إلاّ حُبّاً لمحمد ، وإصراراً على الوقوف إلى جنبه والتفاني في سبيل أهدافه .
وصف ابن هشام علاقة خديجة بمحمد (ص) وعيشها معه في بحبوحة الاُسرة ، فقال : (وآمنت به خديجة بنت خويلد ، وصدّقت بما جاءه من الله ، ووازرته على أمره ، وكانت أوّل مَن آمن بالله ورسـوله ، وصدّق بما جاء منه ، فخفّف الله بذلك عن نبيِّه ، لا يسمع شيئاً ممّا يكرهه ، من ردٍّ عليه ، وتكذيب له فيحزنه ، إلاّ فرّج الله عنه بها ) (25) .
وبذا اسـتحقّت أن تكون من أعظم نساء الأرض ، ومن خيرة نساء الجنّة .. قدوة وأسوة . وبذا استحقّت أن تُلقّى تحيّة الربّ ، ينقلها جبرئيل إليها عن طريق محمد (ص) .
وبذا استحقّت أن تُبشّر ببيت من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب ، ذلك لأ نّها لم تصخب يوماً بوجه محمد (ص) ، ولم يرَ منها ما يزعجه ، أو يكدِّر صفو العيش معها طيلة حـياته ، بل كانت تمنحه الحب ، وتشدّ من أزره ، وتخفِّف عنه آلام يوم اشتدّت محنة الصراع مع خصوم الدعوة .
تلك سيرة خديجة مع محمد (ص)، أثنى عليها الربّ الكريم، ولهج بالإشادة بها لسان محمد (ص) طيلة حياته ، فلم تغب تلك المرأة العظيمة عن قلبه وذاكرته .


حسين الحمداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس