عرض مشاركة واحدة
قديم 10-01-09, 05:14 PM   #33
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: الدكتور مصطفى الفقى وهؤلاء


[align=center]أم كلثوم»

بقلم د.مصطفى الفقي ١١/ ١٠/ ٢٠٠٧
إذا ترامت إلي مسامعي إحدي أغنياتها وجدتني أنسحب من واقع اللحظة إلي عصاري الستينيات من القرن الماضي ولياليها الرائعة عندما بدأ عشقي لذلك الصوت الذي لن يتكرر. إنها تلك الريفية الفقيرة التي بدأت حياتها بالأناشيد الدينية والمديح النبوي، وانتقلت من «طماي الزهايرة» قرب «السنبلاوين» لتغني علي أعظم مسارح الدنيا،
وفي القاعات الكبري بالعالم. إنها تلك الموهبة التي أجزلت لها العناية الإلهية العطاء ومنحتها صوتاً كانت جيوش الحلفاء والمحور في الحرب العالمية الثانية توقت بعض غاراتها مع حفلاتها الغنائية استثماراً لحالة الاسترخاء التي يعيشها الناس أثناءها. إنها الفنانة الفذة التي خالطت الملوك والزعماء والساسة حتي إنه عندما جري اغتيال «النقراشي» باشا رئيس الوزراء بدأ جحوظ عينيها بتأثير اضطرابات الغدة، نتيجة صدمة الحزن علي صديق عزيز. ولابد أن أعترف بأن الاستماع إليها عن بعد أمتع بكثير من التعامل معها مباشرة،
لا لأنها شخصية غير مقبولة، ولكن لأن صوتها وحده ينقل الإنسان إلي مراتب عليا من الاندماج والشجن، ويفتح أمامه أبواب الخيال المطلق الذي لا توقفه حدود الشخصية بواقعها البشري المعتاد. وأتذكر يوماً من صيف عام ١٩٧٣ عندما كلفني القنصل العام أن أذهب صباح «السبت» إلي فندق «الجروفنر» الشهير لأصطحب السيدة «أم كلثوم» وزوجها الراحل الدكتور حسن الحفناوي إلي مطار «هيثرو» لتوديعهما، بمناسبة انتهاء فترة علاجها في لندن،
ولأن الوقت كان عطلة الأسبوع فقد اصطحبت معي زوجتي وابنتي «سلمي»، التي كانت في عامها الأول، وذهبت بسيارتي «الفولكس» الصغيرة تتبعني سيارة السفارة «الجاجوار» يقودها الحاج «واعر»، سائق السفير المصري في لندن، ووقفت في بهو الفندق حتي نزلت حقائب السفر وأطلت علينا «كوكب الشرق» وزوجها الطبيب الشهير، وقد بدت علي وجهها آثار الزمن وبصمات العمر،
ولكنها كانت متماسكة ويقظة، فقدمت لها نفسي ودرجتي الدبلوماسية فبدا عليها شيء من عدم الارتياح لأن دبلوماسياً من درجة صغيرة هو الذي يودعها ثم انطلقت السيارتان إلي المطار، وأخذت جواز سفرها الدبلوماسي واتجهت به إلي ضابط الجوازات البريطاني الذي قال لي إن الاسم المكتوب في الجواز هو «أم كلثوم» فقط، وأنهم يريدون الاسم ثلاثياً، فاستوفيت البيان منها، ولا حظت أن تاريخ ميلادها المدون هو عام ١٩١٠، وأنا أظن أن هناك سنوات عشراً مختصرة من ذلك التاريخ!
ثم جاءت مندوبة علاقات عامة من شركة الخطوط البريطانية لتكون في خدمة الشخصية المهمة المسافرة، وكانت فتاة رائعة الجمال من أب مصري وأم انجليزية هي «جيهان نخلة» وقد اقتربت منها السيدة «أم كلثوم» وأبدت إعجابها الشديد بها،
وظلت تتحدث معها لفترة، ودعتها لزيارتها في القاهرة عند وجودها في أرض الوطن، ثم فتحت الشركة البريطانية صالة خاصة لكبار الزوار تكريماً لأهم مغنية في التاريخ العربي الحديث، وهمست «كوكب الشرق» في أذني تسألني إن كانت أسعار المشتروات بمطار لندن أرخص أم في الطائرة أم في مطار القاهرة لأنها تريد شراء بعض اللوازم، وأخذت تداعب ابنتي الصغيرة وتقول إنها صغيرة الأنف وتبدي إعجابها بإسمها،
ثم بادرتني بسؤال مباشر لماذا لم يكن السفير كمال رفعت في وداعها؟ فقلت لها إنه لا يخرج للمطار مستقبلاً أو مودعاً إلا لرئيس دولة أو رئيس الوزراء أو وزير خارجية، فهو من كبار قيادات ثورة يوليو ونائب سابق لرئيس الوزراء، فقالت لي: هل يعلم أن الذي كان يودعني في مطار القاهرة بتكليف من الرئيس السادات هو الدكتور محمد عبد القادر حاتم النائب الأول لرئيس الوزراء؟ فشرحت لها ظروف العمل الضاغط في لندن وأن سفرها صادف عطلة الأسبوع ،
يبدو أنها لم تقتنع بما قدمته من تبرير، وشعرت يومها أنني أقف أمام تاريخ مصر كله مجسداً في تلك السيدة التي عاشت حياة حافلة بالعطاء والمجد والشهرة، وعندما صعدت معها إلي داخل الطائرة وجهت لي عبارات شكر مقتضبة وأخرجت أحد الكروت الشخصية بعنوان فيلتها في شارع «أبو الفدا» بالزمالك ورقم تليفونها المنزلي، عندئذ أدركت أنني قد نجحت في مهمتي، ونجوت علي الأقل من سخريتها المحتملة فقد كانت صاحبة نكتة ذكية وملاحظة سريعة،
فعندما سخر بعض أفراد فرقتها من رابطة عنق أحد زملائهم قائلين إن قيمتها لا تزيد علي خمسين قرشاً قالت لهم إن ذلك ظلم لأن عليها بقع زيت تتجاوز قيمتها جنيهاً كاملاً! وعندما كان المذيع المعروف «سيد الغضبان» يقدم إحدي حفلاتها تساءلت غضبان من ماذا؟! وحين قدم لها الكاتب الراحل أحمد بهاء الدين صديقه المفكر اللبناني «د. كلوفيس مقصود» ضحكت ساخرة وقالت وهي تصافحه: إذا كان هذا هو اسمك الفني فما هو اسمك الحقيقي؟!،
وما أكثر نوادرها وقصصها الطويلة مع رامي والسنباطي والقصبجي وعبدالوهاب ومحمود الشريف وبليغ حمدي وسيد مكاوي وعلاقتها القوية بشعراء عصرها وأدباء زمانها، ولن ينسي المصريون دورها الرائع بعد هزيمة ١٩٦٧ وهي تجوب العواصم العربية والأجنبية من الكويت إلي السودان إلي المغرب ثم إلي باريس ولندن وغيرها تشدو دعماً للمجهود الحربي وإزالة آثار العدوان.
والغريب أنها عندما رحلت عن عالمنا تضاربت بيانات الحكومة في توقيت وفاتها، ربما لأن البعض كان يظن أن حياتها المجيدة سوف تستعصي علي الموت، بينما الخلود لله وحده.


يوسف صديق

بقلم د. مصطفي الفقي ٤/ ١٠/ ٢٠٠٧
قد يتساءل البعض لماذا أكتب عن شخصية بعينها ولا أتعرض لغيرها؟ والجواب بسيط، وهو أنني أكتب فقط عمّن تعاملت معهم «عن قرب»، ولذلك قد تكون هناك شخصيات دولية أو عربية أو محلية ذات ثقل سياسي أو وزن أدبي، ولكنني لم أسعد بلقائها، فلم أكتب عنها، بينما يكون تركيزي علي الشخصيات المهمة التي ساقتني ظروف العمل أو الصداقة الدائمة أو اللقاء المباشر، للتعرف عليها من مسافة قريبة فكرياً وإنسانياً،
وهاأنا ذا أكتب اليوم عن شخصية ذات موقع خاص في تاريخ الثورة المصرية من ناحية تنظيمها العسكري وطبيعة العمليات الاستثنائية ليلة «٢٣ يوليو ١٩٥٢»،إنه رجل تصدق فيه المأثورة التاريخية «الثورات يقوم بها الشرفاء. ولكن يستفيد منها الجبناء»!
إنه القائمقام «يوسف صديق» بطل تلك الليلة الفاصلة في تاريخ مصر الحديث، والذي تحرك بقواته - بطريق الخطأ - قبل ساعة الصفر، في مبادرة شجاعة أنقذت الضباط الأحرار من أحكام إعدام كانت تنتظرهم لو أن الأمر كله قد جري اكتشافه، لتبدأ محاكمة القائمين علي تمرد عسكري فاشل، وهو أيضاً ذلك البطل الذي كادت قواته أن تعتقل جمال عبدالناصر، وعبدالحكيم عامر، بزيهما المدني،
وهما يستطلعان مجريات الأمور قرب القيادة عند مبني رئاسة أركان الجيش، وذلك مع اعترافنا الكامل بأن «عبدالناصر» هو مفجر ثورة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، وقائد تنظيم الضباط الأحرار، إلا أننا نندهش للمعاناة القاسية التي تعرض لها يوسف صديق بعد نجاح الثورة، وكأنما كان عليه أن يدفع مثل قائده اللواء محمد نجيب - أول رئيس للجمهورية المصرية - الثمن الفادح لدورهما الوطني وعملهما التاريخي، فقد أبعدت قيادة الثورة بطل ليلة ٢٣ يوليو ١٩٥٢، الثائر المثقف يوسف صديق، الذي أنقذت مبادرته الشجاعة مصر من مواجهة دامية في ليلة حاسمة تدخل القدر فيها ليتغير معها مجري التاريخ كله،
ولقد كان لقائي مع بطلنا الراحل الضابط الباسل والرجل الواعي والشاعر الرائع يوسف صديق، علي امتداد أسبوع كامل من شهر سبتمبر عام ١٩٧١، وكان الرئيس «السادات» قد أوفده للعلاج في العاصمة البريطانية، وكنت قادماً جديداً إلي لندن، حيث عملت نائباً للقنصل المصري هناك ولم أكن قد انتقلت إلي مسكني الدائم بعد، فاكتشفت أنني أقيم مع السيد يوسف صديق في فندق واحد، هو فندق «نيرا» في منطقة «كوينز واي» الشهيرة في «عاصمة الضباب» كما كانوا يسمونها في ذلك الوقت،
واقتربت من الرجل كثيراً واستمعت إليه طويلاً، وحكي لي عن النزيف الدموي الذي انطلق من صدره عبر فمه ليلة الثورة، وكيف أن «حقنة» لا يكاد يتذكر اسمها قد أوقفت ذلك النزيف لما يقرب من عشرين عاماً حتي عاودته آلام المرض مرة أخري، وجاءت به إلي رحلة العلاج التي التقيته فيها. وأعجبني كثيراً في ذلك البطل المصري أن مرارة الشعور بالجحود من رفاق الثورة والسلاح لم تترك بصماتها السوداء في قلبه، بل كان يتحدث بحس إنساني رفيع عن عبدالناصر ورحيله، ونجيب وعزلته، وعامر ومصيره،
وشرح لي أكثر من مرة تحليلاته السياسية والعسكرية لدوافع الثورة ونتائجها، بإنجازاتها وأخطائها، لماضيها ومستقبلها، وبدا الرجل أمامي كأنه طيف عابر من ضمير وطن جريح ينزف دائماً قطرات من دم، مثل تلك التي نزفها يوسف صديق ليلة الثورة.
كما قرأ علي فقرات من مذكراته، وتلا علي بعض أشعاره، واستعرض سنوات النفي والعزلة داخل الوطن الذي عاش من أجله وضحي في سبيله، وتناول أزمة مارس ١٩٥٤ وملابساتها، وطرح رأيه فيها، والشيء العظيم أنه ظل قابضاً علي مبادئه، عاشقاً لوطنه، مؤمناً بثورته، مدركاً فضل زوجته المناضلة والتي تنتمي إلي عائلة مسيسة، قدوة لأسرته الصغيرة التي ارتبط بها صديقي وزميل دراستي الأستاذ عبدالقادر شهيب رئيس مجلس إدارة دار «الهلال» ورئيس تحرير «مجلة المصور»،
لقد تعلمت الكثير من الأسبوع الذي قضيته مع ذلك الضابط المتقاعد والفيلسوف الزاهد الذي زرع الكثير وحصد الهشيم، ولكنه ظل دائماً متماسكاً مترفعاً عن شهوة المناصب وعطايا السلطان، وظل ولاؤه لتراب الوطن قوياً حتي سكن في أحضانه ذات يوم تاركاً وراءه سيرة عطرة، وبطولة باقية، وزوجة صلبة، وذرية صالحة.[/align]


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس