عرض مشاركة واحدة
قديم 11-12-02, 10:57 PM   #5

الأطلال-جيت
يا هلا نورت المنتدى

رقم العضوية : 553
تاريخ التسجيل : Dec 2002
عدد المشاركات : 10
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ الأطلال-جيت

لم أستطع الانتظار حتى يكمل والدي إجراءات إغلاق الباب المعقدة فما لبثت أن بادرته بالسؤال.
-أبي.
-نعم؟! خير ؟!! ماذا تريد ؟
-من هذا الزائر؟
-الفرنسيون يسمونه (( الخفاش )).
-و أهل الدير؟
-ينادونه (( أبو الليل )).
بفظاظةٍ رهيبة قطعت أصوات البنادق الخفيفة و الأقدام المتراكضة هنا و هناك حديثنا و فوجئت بوالدي يدفعني أرضاً و ينبطح إلى جانبي.
سيل من الرصاص يتساقط مطلقاً صوتاً غريباً يملئ ساحة بيتنا بالخوف محطماً زجاجة قنديل الجاز المرتعش بين يدي أبي… أشباحٌ تركض هنا و هناك مالئةً سكون الحي المظلم برطانةٍ غريبة و عصبيةٍ و فوضى.
-صموئيل … ساليم … أللون أفيك نو …
مأذنة القرميد القديمة الرابطة على صدر الرابية المكتظة بالبيوت الطينيةِ القديمة تسبح ببشائر ضوء القمر و بيوتنا البائسة أسفلها تغرق في ظلام و صمت رهيبين.
كلاب الحي تقفل أجفانها من شدة التعب رغم وجود حركةٍ غريبة في الأزقة الضيقة.
وحدها رائحة (( الجلة )) و حطب الشيح الرطب المشتعل كانت تزكم الأنوف و عجوز المرحوم الحاج (( صويلح )) تهدهد حفيدها بصوت يشبه همس نسائم الصباح مرنمةً.
-أنتم تنامون و عين الله ما نامت و لا شدة على المظلوم دامت
حركة غريبة و روائح غير عادية تقتحم أنوف كلاب الحي الممدةِ أسفل الجدران الطينية الأيلةِ للسقوط مطاردةً خفاشاً أسود بشاربين كجناحي صقر و ضاحكٍ ذهبي لامع صنعته كف غجرية يتنقل بين غابةٍ من أعواد السقوف المتداعيةِ.
خوذات حديدية لامعة تتدفق عبر أزقة دير العتيق الغارقة بالكلاب المذعورة و القاذورات كنهر من الضوء لم يلبث أن تحول إلى روافد ثلاثة.
أحذية عسكريةٌ ذات روائح كريهة تتزاحم في ردهات (( العلوة )) الصامتة منذرةً بحدوث مكروه.
يد حديديةٌ تطلق فكيها نحو لثام الخفاش المتنقل بين حيطان العلوةِ بخفة الفهد.
تصلبت يد (( أبو الليل )) و هي تنطلق بالمدية بسرعة البرق إلى البزة العسكرية ذات الأزرار اللامعة غير أن اليد الحديدية أمسكت بالمدية بقوة أذهلت (( أبو الليل )) … الدهشة تعقد لسانه و هو ينظر في العينين اللامعتين الناظرتين إليه بإعجاب.
-أنت (( أبو الليل )) …!!؟
-أجل.
-انطلق قبل أن يصل الجنود.
عاصفةٌ من الشك و الذهول تجتاح جوارح أبو الليل فتسمر قدميه أرضاً.
نبرة الجندي المطمئنةُ تخفف من إصرار (( أبو الليل )) على النيل من خصمه.
-أنا أخوك الناصر … من الجزائر … لا تخف … انطلق بسرقة قبل أن يأتي الجنود.
أنزل أبو الليل مديته متمتماً.
-الكلاب!! يقتلوننا بأيدي أبنائنا !!؟
-نحن لا نقتل عربياً أبداً اطمئن
مد (( أبو الليل )) يده الخشنة ليصافح الكف الحديديةَ الممدودةَ إليه.
-غدا صباحاً سيقصف الفرنسيون …………
-اطمئن لم يجدوا أحداً
رشاش من طراز (( سامو بال )) يعلن انتهاء الحديث ملقياً بقطةٍ كسولةٍ عن ظهر جدارٍ قريب.
قناديل البيوت الكئيبة تتوهج مستقبلةً أذان الفجر بنفاد صبر…
ها هو الصبح يرمي بأول نياشينه على الهلال المركوز أعلى المئذنة الشاحبة ذات القرميد المتآكل.
الملا على يجلجل بصوته الأجش من شرفةٍ أعلى المئذنة السابحةِ بالشعاع
-الله أكبر … الله أكبر … أشهد أن لا اله إلا الله …
حركة دائبة تجتاح البيوت و عيونٌ سوداء تتلامعُ محتقنة بالقهر و الجوع.
طابورٌ طويل يودع البيوت بصمت منسرباً بين الجسر العتيق و الجسر المعلق كأفعى عمياء جاوزت سن الشيخوخة.
البساتينُ تفتح جدرانها الطينية لتلقم الناس بصمت مطبق.
حتى (( أبو كحّول )) المعروف بعناده غادر منزله صاباً سيلاً من لعناته المعتادة على رؤوس الفرنسيين.
إنها السادسة تماماً !!
الهدير يقض مضاجع المدينة الحالمة النائمة على ضفاف الفرات الخالد.
طيورٌ معدنيةٌ متوحشة تطرد العصافير و البلابل عن سماء المدينة بزعيقها المشؤوم ، كبسولاتٌ مجنحة تنزلق من بطون الطائرات اللامعة لتستقبلها
السقوف الهشةُ بصدور مثقوبة و (( الدانات )) المتساقطة كالمطر تحول سماء المدينةِ جحيماً لا يطاق.
البساتينُ تحتضنُ الناس في هدوء و رهبة و شبابيكُ المنازلِ تودعُ أجفانها الزجاجيةَ إلى غير رجعة.
خوفٌ و ترقب يلفان البساتين الغارقـة في الصمت و العيون المتعبة.
-ما شاء الله … !! أهل الدير كلهم هنا !!!
أحد الرجال يضيق ذرعا بحالة القلق و الترقب فيحاول بمرح كسر حاجز الصمت الرهيب المخيم على المكان مشاركاً عشرات المتحدثين دون مناسبةٍ
-متى سيبدأُ الزفاف ؟؟! أين العروس ؟!!
لغطٌ غريب و ثرثرةٌ ترسم على الوجوه المتعبة ابتسامات صفراء.
-جمعةٌ على خير … !!
-انظر انظر !! أليس هذا مرزوق العجلان !! انظروا مع من يقف !!؟
-خلف الكريّم !!! إن بينهما ثأراً … انظر انظر انه يقبلُ كرّوم ولد مرزوق العجلان !!؟
-تحيا الصداقة!!
هتف أحد الواقفين محاولا جذب الانتباه إليه فنهره ذو اللحيةِ الكثة.
-ليس الأمر كما تظن يا أبا الزهرة.
-و كيف يكون يا أبا العُريف ؟
-إن الظروف الصعبة تنسى الإنسان أحقاده الصغيرة
أحد الواقفين يسخر من جدية الحديث بضيق
-لك يا آدم … هذا دم …… كيف يعني ينسى !!؟؟
بعد قليل ينتهي ضرب الدان … و يرجع كل واحد مثل ما كان
-فال الله و لا فألك.
خيولٌ مسرعةٌ تدفعها أشعةُ الشمس تحملُ رجالا ملثمين يسابقون الضوء إلى المدينة الصامتةِ كالمقبرة.
العيون تشخص باتجاه الفرسان المدججين بالأكياس الفارغة و بعض البنادق نصف الآلية القديمة قدم التاريخ.
فيضٌ من مشاعر الفخر و الاعتزاز يغمر مشاعر الرجال فينسونَ حذرهم ملوحين بكوفياتهم المزركشة للفرسان القادمين من المجهول و بعض النسوة المتحمسات يطلقن زغاريدهن الرنانة ابتهاجاً بكوكبة الفرسان المغيرة.
هرجٌ و مرج يسودان الهاربين من جحيم المدينة المشتعلة إلى ضفاف الفرات الخالد تختلط فيه زغاريد النساء بتهاليل الرجال.
-محوّطين بالله.
حناجر الرجال تزمجر بحماس أغرودةً معروفةً للمجاهدين.
-ربعي دوم مونسين البر مسقين العدوان من المر
ربعي دوم مونسين البر حدايـةٌ و شيالة موزر
ثرثرات و ترهات و حكايات بطولة وهمية تؤنس وحشة الصمت و الانتظار و الترقب.
هدير الطيور الحديدية يبتعد عن سماء المدينة الزاخرة بأعمدة الدخان و اللهب و أصوات عيارات نارية تمزق وحشة الصمت المطبق.
ساعتان و لم يعد صوت الهدير الكريه إلى السماء المثقلةِ بالسحب السوداء و ألسنةِ اللهيب المتصاعدةِ من هنا و هناك.
البريق يعود إلى العيون المتعبةِ من جديد حاملاً نوبةً من الفرح المشرب برائحة الخوف.
ها قد بدأت رائحة الحياة تتسلل إلى البساتين عبر السواقي المفلطحة معلنةً انتهاء فترة الضيافة.
إنها العاشرةُ صباحاً … الجموع الغفيرة الهاربة من مياه السقاية تتدافع عبر الطريق الممتدة بين الجسرين بعشوائيةٍ غريبة !!
كتلةٌ سوداء تقتحم العيون مترنحةً فوق الجسر البعيد كالأفق.
بجزع يصرخ أحد مستوري المدينة.
-أليس (( أبو الليل )) من يقف على أول الجسر ؟!!
-بلى إنه أبو الليل هذه عصاه حسنة تلوح من بعيد في يده … و لكن ما الذي دهاه ؟!! انه يتأرجح في مشيته.
القلوب تسابق الخطا نحو الجسر حيث يقف (( أبو الليل )) كالأسد الجريح واضعا يده اليمنى تحت ثديه الأيسر.
-أظن أنه جريح.
-اللعنةُ على الفرنسيين و على داناتهم الغادرة.
غشاوةٌ غريبةٌ تمنع ناظري (( أبو الليل )) من رؤية الجموع المتدافعة نحو منتصف الجسر بلهفة.
الأرض الاسمنتية الصلبة ترتطم برأس (( أبو الليل )) مباعدةً بينه و بين ((حسنة)) رفيقة العمر.
الصدور تعلو و تهبط و الأنفاس تتقطع متسابقةً نحو الفارس المتوشح بالسواد.
-أبو الليل … أبو الليل !!؟!!؟ ما الذي دهاك ؟! قف يا رجل.
احتضن والدي (( أبو الليل )) غير أن صرخةً مكتومةً أذهلت الحاضرين و هي تنطلق من حنجرة والدي الضعيفة.
يده المرتعشة تسبح في بحر من اللزوجة الدافئة فتبدو على وجه والدي الطيب أمارات جزع ممتزجٍ بالخوف و اللهفة.
-ما بالك يا رجل!! احمله … أراك تولول كالنساء ؟؟!
-انه ينزف بشدة !؟ … ظهره كالغربال.
-الفرنسيون الأوغاد … لقد قتلوه.
صرخ أحد الرجال معنفاً أرملةً عجوزاً أطلقت ولولتها و بدأت تلطم وجهها بهلع.
-وحدي الله يا بنت الحلال … إن شاء الله سلامة.
ثم أمسك بيد (( أبو الليل )) محاولاً رفعه
-شد حيلك يا سبع … سنسعفك في لحظة … كلنا نفداك.
لأول مرةٍ منذ عرفته ينطلق صوت (( أبو الليل )) ضعيفاً متعباً يثقله الحزن و الألم.
-ابتعدوا عني أريد أن أتنفس بعمق.
ثم أشاح بعينيه المطفئتين عن العيون اللاهفة الناظرةِ إليه بضراعةٍ و فزع كأنما يخبئ شيئاً خطيراً و سراً لا يريد لأحدٍ أن يعرفه غير أن وجهه الوضيء كان طافحاً بالألم هذه المرة.
-من فعل ذلك يا (( أبو الليل )) ؟!! قل لي أرجوك … أبوس إيدك.
نظر (( أبو الليل )) إلى الوجوه المحبةِ الملتفةِ من حوله ثم هز رأسه نافياً و هو يسمع صراخ أحدهم من غير الفرنسيين !؟ … الكلاب … أولاد الـ…
تأوه أبو الليل لأول مرةٍ في حياته ثم تلفت حواليه باحثاً عن حسنة رفيقة كفاحه بين غابة الأقدام المحيطةِ به ثم تمتم و هو ينظر في الوجوه ملياً.
-الفرنسيون قصفوا البيوت …… أما أنا …… آآه
كشف (( أبو الليل )) عن صدره المليء بالثقوب الغادرة المتفتحةِ كزهر الشقائق … كان المشهد مروعاً خبأ كثيرٌ من الحاضرين عيونهم بأيديهم بينما انطلقت من صدر (( أبو الليل )) آهةٌ خيل معها للجميع أن روحهُ قد فاضت معها غير أنه ما لبث أن ابتسم متمماً حديثهُ.
-الجبناء … الجبناء … خدعتني ألبستهم فخرجت من مكمني للترحيب بهم … لكنهم … آه.
-لا تقلق يا (( أبو الليل )) إن جيشاً من أبناء العمومة قد جاء للدفاع عن المدينة … ما زالت الدنيا بخير … الحمد الله!
-القتلة … الجبناء … لقد رموني بالرصاص و هم الآن يسرقون المؤونة من بيوتكم … آهٍ القوهم … القوهم و إلا فالموت بانتظاركم.
أدار (( أبو الليل )) عينيه متفرساً في وجوه الموجودين ثم بدأ صوته بالتلاشي و هو يوصي والدي.
-بلغوا سوادي و (( أبو النار )) أنني … أنهم …… الفرنسيون …
اتسعت عينا (( أبو الليل )) و بدت ابتسامته أكثر إشراقا و هو يجيل عينيه المطفأتين بين الوجوه المثقلة بالحزن من حوله و انتفض جسده من شدة الألم و هو يمد يده صوب (( حسنة )) حتى هدأت حركته تماما ثم تلاشت.
-(( أبو الليل )) يا سبع … يا سبع … (( أبو الليل )).
-الدوام لله.
انطلق الناس بالفؤوس و الحجارة و الهراوات يدافعون عن بيوتهم المهشمة المنهوبة.
بقية من نسائم الفرات تلقي بالندى على وجه (( أبو الليل )) الباسم فتكسوه بريقاً ملائكياً.


توقيع : الأطلال-جيت

كُلُ الذي أدريهِ أنَّ تَجَرّعي ____ كأسَ المَذَلةِ ليسَ في إمكاني


الاطلال - جيت

لأي مساعدة في مجال الكمبيوتر لا تتردد و راسلني
Talal_malek@msn.com

الأطلال-جيت غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس