عرض مشاركة واحدة
قديم 11-12-02, 10:52 PM   #3

الأطلال-جيت
يا هلا نورت المنتدى

رقم العضوية : 553
تاريخ التسجيل : Dec 2002
عدد المشاركات : 10
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ الأطلال-جيت

رشف أبو الليل رشفةً طويلة من كوب الشاي الساخن ثم ابتسم و هو يرد تحية بائع (( السحلب )) الذي بدأ صوته يغزو المكان بأنغامه الشجية.
-سحلب … حليب … أخر كأس يا شباب … أحلى كأس سحلب لأحلى (( أبو الليل )).
مد أبو الليل يده في جيب شر واله ليدفع ثمن الكأس العابقة برائحة القرفة .
-لا ولله … هاي على حساب المحل.
تململ النادل من حديث البائع الذي لم يلبث أن ودع (( أبو الليل )) ملبياً طلبات الزبائن هنا و هناك … ثم أقفل راجعاً.
-كانت ضربة البارحة مؤلمة يا أبو الليل … ثلاثة جنود و مخزن قمح كامل … إننا مجرمون حقا … !!
-خلي الناس يشبعوا … حرام إذا أكلوا من تعب أيديهم !!؟
-الله يستر
همس النادل و هو يودع صاحبه ليلبي طلبات زبائن المقهى الكثيرين و لم يلبث أن دوى صوت أبو الليل.
-عطوان
-أمرك أبو الليل
-ليلاً في نفس الموعد
-أين؟
-في البستان الشرقي
-رأيي أن نرتاح اليوم … العيون مفتوحة علينا عشرة على عشرة.
يهز أبو الليل عصاه الحبيبة محتجاً.
-و حسنة … !!؟ هل تموت من الجوع ؟!!
-لن تموت حسنة إذا صامت هذا اليوم.
-ستموت حسنة إذا لم تأكل اليوم من رأس (( القومندان )).
-يدبر الله.
-على الغياب إن شاء الله … لا تنس.
-على الغياب … في البستان الشرقي.
هز أبو الليل رأسه بسعادة لحظة انصراف النادل بخفة و ازدادت ابتسامته إشراقا و هو يسمع صوت عطوان يدوي هنا و هناك.
-اثنان شاي … و واحد قهوة مرة … و لا تنس النار يا ولد.
بسرعة البرق أفرغ الشاي الثقيل في جوفه الملتهب و ما لبثت حسنة أن ارتفعت فوق منكبيه العريضين كراية انتصار.
لم يتأخر الليل بالمجيء ذلك اليوم الصمت يلف البستان الشرقي بغطاء من الرهبة و بقايا من شفقٍ ترحل تاركةً نسمات الظلمة تداعب وجه النهر العاشق.
أوراق البرديّ تقبل وجه النهر … تتشابك … تطلق وشوشةً و تخبئ بين جوارحها عقباناً ترصد درب الجسر بعيني ذئب.
لم يكن برج الحراسة الجاثم على صدر الرصيف الضيق يبعد أكثر من عشرين خطوة.
سيارة جيب مكشوفة تطلق زئير محركها مدججةً بوجوهٍ صارمةٍ و أيد باردةٍ تقترب من برج الحراسة بهدوء.
(( الدومري )) يبدأ رحلته المعتادة بإضاءة أول فانوس يعلوا ناصية المحرس.
سيارة الجيب الغاصةِ بالخفراء تطلق زئيرها من جديد بعد أن لفظت خفيراً من حمولتها أول الجسر المعلق.
-بون سوار ميشيل.
-بون سوار.
خيوط الشفق اللاز وردي تودع سماء المدينة الملتفة بوشاح الصمت.
أشباحٌ سودٌ تتسلل متخفيةً بجناح ظلام يمتد بطيئاً صوب الجسر و صوت غرابٍ يتعالى في الجهة اليسرى من سور البستان الشرقيّ.
لم ينتظر أبو الليل طويلا تحت التينة … ها هي حسنة تهتز طربا لمجيء عطوان و سوادي.
-أهلا شباب … ما الأخبار؟
لم تسعف سوادي أنفاسه المتقطعة … فما لبث أن ألقى بثقله على الأرض الهشة محاولاً التقاط ما أمكن من أنفاسه المتقطعة بينما ابتسم عطوان مطلقا عينيه صوب أبو الليل.
-الحراسة مشددة هذا المساء.
-أحسن … !!
-تركت الدورية تطارد سوادي و هربت باتجاه الجنوب.
-معقول !!؟
-أنسيت أن التجول ممنوع بعد المغرب.
-لا … و لكن لم نكن نواجه مصاعب كهذه.
-ألم أقل إن الحراسة مكثفة!؟
-غريب.
-اسأل سواديّ كيف تخلص منهم.
التفت الاثنان صوب سواديّ الذي استقبلهما بابتسامته المعهودة بعد أن جمع أنفاسه الهاربة.
-سلمنا و الحمد لله!!
-كنت أتوقع أن أصل قبلك!
-اضطررت للاحتماء ببيت القومندان.
-تقصد القصر!!
-أجل … القصر … كان غاصا بالضيوف.
-أتمزح يا أبا السوداء؟
-أقسم بالله أنني احتميت ببيت القومندان … و أقسم أنه كان غاصاً بالضيوف
-و لكن … أين تخبأت؟!
-أعلى النخلة المطلة على صالة الضيافة.
-ولكنّ أبراج الحراسة كثيرة!!؟
-صدقوني يا شباب لو نظر أحدهم إلى أعلى لما وصلت إلى هنا أبداً.
-حمداً لله على السلامة.
بريقٌ غريب كان يلتمع في عيني أبو الليل و هو يستمع إلى أجوبةِ سواديّ الواثقة.
لم يستطع عطوان أن يمسك لسانه عن السؤال.
-قل لي يا أبو الليل … ما خطتنا هذا المساء ؟
لم يفارق ذلك البريق الغريب عيني أبو الليل و هو ينقلهما بين عطوان و سواديّ.
-سنهاجم بيت القومندان.
-سامحني (( أبو الليل )) لقد نجوت في المرة الأولى … و لا أظن أنني سأنجو مرةً ثانيةً هذا المساء.
أطلق أبو الليل نظرة كالرصاص باتجاه سوادي الذي بدا مرتبكا مترددا.
-أنت حر … أنا وعطوان سنهاجم بيت القومندان
بحر من الخجل يبتلع سوادي وهو يرى رفيقي دربه يخططان لمهاجمة بيت القومندان وحيدين فيتمتم محاولا الاعتذار
-طول بالك أبو الليل …كنت امزح معك
-يا سوادي هده قضية حياة أو موت … ولا أريد أن تذهب إلى الموت خجلا مني
-لو بقيت دونكما … لمتّ خجلا من نفسي…صلّوا على النبي أنا أمزح فقط
-تعال إذا لتعرف دورك …
نصف ساعة انقضت كأنها دقيقة واحدة نهض الأصدقاء بعدها متوجهين إلى بيت القومندان.
نقيق الضفادع يعكر هدأة الليل وأصوات لغط وضحكات عالية تؤنس وحشة المكان …حركة خفيفة تجتذب اهتمام الخفير الجاثم أعلى البرج الأيمن للبوابة الحديديّة الثقيلة.
لم يكمل الجندي خطوته الثالثة حتى كانت حسنة تشرب من ماء رأسه …بصمت.
ولم يكن حظ الخفير الرابض في الجهة اليسرى خيرا من حظ صاحبه …لحظات.
راح الجنديان بعدها يغطان في نوم عميق…بينما ارتفعت حسنة بزهو لتمتطي كتفي أبو الليل العريضين …
سرعان ما اجتمع الأصدقاء الثلاثة من جديد …وللمرة الأولى تجيء زمجرة أبو الليل خافتة …
-قيدوهما بسرعة وكمموا فاهيهما…هيا
لم يستطع أبو الليل كبح جماح السؤال في فمه
-أ ين مخزن المؤونة يا سوادي ؟…أين…؟
-عشر خطوات يمين البرج الثاني…
-سأحاول فتحه ريثما تلحقان بي …لا تتأخرا
بدأ الصديقان يوثقان الجنديين الممدودين كقتيلين …بينما انسل أبو الليل قاصدا باب المخزن الشبيه بالزنزانة
لم يصمد قفل المخزن اكثر من دقيقتين أمام قوة أبو الليل وصلابة حسنة
السكون المطبق يلف قصر القومندان ونباح كلاب الحراسة يتعالى من هنا وهناك ممتزجا بضحكات الساهرين وكؤوس من كل الألوان تتناقلها الأيدي
الناعمة والبزات ذات الأزرار اللامعة…
عينان لامعتان فقط كانتا تجوسان أرجاء غرفة المؤونة المظلمة
عشرات الأكياس تصطف بانتظام في أرجاء الغرفة الفسيحة ومئات من الصناديق الكرتونية الأنيقة والدنان الخشبية الراشحة برائحة الكحول الواخزة تنام في أمان…
على ضوء ولاعة الجاز ذات القبعة الساخنة تحسس الصديقان طريقهما إلى غرفة المؤونة
-أبو الليل … يا أبو الليل
-هل جهزتما العربة ؟
إنها تبعد ثلاثين خطوة…تحت جدار السور النهري تماما
سيؤمن سوادي الطريق وسنبدأ النقل أنا وأنت …هيا بسرعة
-حاضر
الأكياس الراقدة حتى العفونة تنطلق مادة أجنحتها السوداء باتجاه العربة المختبئة تحت جدار السور النهري ذي الجدران الرطبة وعشرات الصناديق الأنيقة تنتقل رباع رباع …عبر طريق الحديقة المظلمة …
كشّاف خجول يطلق أشعته المتقطعة عبر أشجار الحديقة الراعشة الغارقة في الصمت و الترقّب.
رأس ملفّع بالسوار يتلّفت يمنة و يسرة مطلقاً نظرة حادة باتجاه سوادي…
-حصة … ما الأخبار ؟
-تمام يا (( أبو الليل )) … الحمولة جاهزة.
-أعطني زجاجة (( المولوتوف )) بسرعة.
-حاضر.
-و أنت يا عطوان … هات ولاعتك بسرعة … و حاولوا إن تنطلقوا عبر البساتين … البساتين فقط.
-و أنت …!!؟
-سأعود لأحضر حسنة و سأشاغلهم عنكم قدر ما أستطيع.
هامساً جاء صوت سوادي متخفياُ بحفيف الأشجار الهامس.
-المولوتوف.
-تأكدت من الفتيل؟
-كل شيء جاهز…
-أحسنت …
وضع أبو الليل زجاجة المولوتوف جانباً ليشد على يد عطوان الخشنة.
-لا تتأخر يا أبو الليل حتى لا نقلق عليك.
-إذا تأخرت أكثر من ساعتين.
-وزعوا الميرة في موعدها … لا تنتظروني … الناس جياع مفهوم ؟
-مفهوم !
-تجنبوا بساتين النخيل قدر المستطاع… سأحاول أن لا أتأخر.
-موعدنا في نفس المكان؟
-نفس المكان … هيا بسرعة.
-بأمان الله يا (( أبو الليل )).
-بأمان الله.
بنعومةٍ و حنان لامس (( أبو الليل )) خد زجاجة المولوتوف اللامع ثم ملئ صدره بعبق فتيلها المحبب و راح يرقب المكان بعيني ذئب متنقلاً حول القصر الغارق في الأضواء بخفة ثعلب … ها هو يعود إلى غرفة المعونة و في عينيه بريقٌ غريب … ! أمواج التوتر تنحسر عن نفسه بعد أن لامست يده خد حبيبته حسنة المشرب بالندى و الحمرة.
يطلق عينيه في أرجاء غرفة المؤونة الفسيحة … إنها تحتوي أطعمةً تكفي أهل الدير لعامٍ كامل… ها هو يبتسم لقد وجد أخيرا ما كان يبحث عنه.
قطع (( أبو الليل الكيس الورقي إلى أربع قطع ثم رفع قبعة ولاعة الجاز بهدوء فابتسم لهيبها ناشراً خيطاً من ضوء و ما لبثت أجزاء الكيس أن تحولت إلى طيورٍ ناريةٍ تنتقل هنا و هناك ناشرةً ألسنة الدفء في كل اتجاه … !
عشرات الفئران تتراكض هنا و هناك مطلقةً صيحات على الضوء الزائر.
بسرعة البرق ودع (( أبو الليل )) غرفة المؤونة الملتهبة غير أنه ما لبث أن كتم أنفاسه و هو يسمع وقع أقدام دوريةٍ ثنائيةٍ راجلة.
-من هناك … ؟ من هناك !!؟
-غرفة المؤونة مفتوحة !
-إنها تشتعل … أطلق صافرة الإنذار بسرعة.
كالقضاء العاجل حطة حسنة على رأس الجندي الخائف لتتركه غارقاً في بحرٍ من الصمت المضرج بالدماء.
-من هناك ؟ … جان ما الذي أصابك … لماذا لا تطلق الصافرة ؟
سيل من الرصاص يطلقه الجندي بعشوائية غريبة غير أن حسنة ما لبثت أن أغرقته مع زميله في بحر واحد.
بدأ اللهيب يمد ألسنته اللاسعة عبر باب و نوافذ غرفة المؤونة المشبكة بقضبان الحديد.
أحذية ثقيلة تجري هنا و هناك على غير هدى و زخات رصاص عشوائية تتهاطل في كل اتجاه قاطعةً صمت ليل القصر الدامس.
نظر (( أبو الليل )) إلى مجموعة الراقصين اللاهين و هز رأسه بحزنٍ بالغ ………
كان يبحث عن سببٍ واحد مقنع لمجيئهم … ! قبّل (( أبو الليل )) خد الزجاجة اللامع قبل أن يملئ أنفه مرةً أخرى بطيب رائحة البترول ثم رفع قبعة ولاعته بهدوء …
بسرعةٍ رهيبة التقم الفتيل لهب الولاعة فتحول إلى لهبةٍ شديدة التوهج و لم تلبث ذراع (( أبو الليل )) أن قذفت بالزجاجة الجهنمية عبر زجاج النافذةِ المضاءة.
لحظات من الصمت الرهيب تلف المكان للحظة يعقبها صوت صراخ و فوضى و رصاص يتطاير من كل اتجاه.
لم يجد (( أبو الليل )) صعوبة في الوصول للسور النهري للحديقة غير أن النيران المندلعة في القصر و في غرفة المؤونة كانت تكشف خطواته للمطاردين
الذين أمطروه بسيلٍ من الرصاص راح يطارده كأفعى مجنونة حتى ضفة النهر الذي اعتاد أن يبتلعه بهدوء و اشتياق.
لم يتأخر الليل بالانتصاف ذلك اليوم فقد أرخى عباءته الثقيلة على حينا سريعاً.
السكون يضفي مسحةً من الرهبة على العباءة السوداء المنسدلةِ على كتفي حينا الغارق في الخوف حتى أُذنيه.
فوانيس الحي تلفظ أنفاسها الأخيرة و صغار الحصى تأن تحت وقع خطا خفيفة سريعة.
صوت حسنة تنقر باب بيتنا مطالبةً برفع مزلاجه الخشبي الضخم.
حالةٌ من الصمت و الترقب تسود المنزل يقتحمها صوت خطوات الوالد المرتبكة.
أطلق المزلاج الخشبيُّ صرخته المعهودة قبل أن تمد حسنةُ رأسها من فتحة الباب الخشبيّ الثقيل ذي الأطراف المتآكلة و المسامير الغليظة بقبعاتها الصدئة.
-السلام عليكم.
_أهلا (( أبو الليل )) تفضل.
-هذا كيس من الحنطة و معه كيس من السكر و بعض الحلوى الفاخرة.
-حلوى !!؟ ما شاء الله !! ما الذي جد؟!!
-هاجمنا بيت القومندان.
-أيها المجانين … !!!!؟
بلجهةٍ جادةٍ انطلق صوت (( أبو الليل )) مؤنسا وحشةَ ساحة البيت.
-خذ أهلك و أولادك إلى البساتين قبل طلوع الصبح.
-لماذا؟! ما الأمر !!!؟


توقيع : الأطلال-جيت

كُلُ الذي أدريهِ أنَّ تَجَرّعي ____ كأسَ المَذَلةِ ليسَ في إمكاني


الاطلال - جيت

لأي مساعدة في مجال الكمبيوتر لا تتردد و راسلني
Talal_malek@msn.com

الأطلال-جيت غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس