عرض مشاركة واحدة
قديم 29-04-03, 03:54 AM   #4

أحزان ليل
العضوية البرونزية

رقم العضوية : 629
تاريخ التسجيل : Jan 2003
عدد المشاركات : 451
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ أحزان ليل

ج-بناء القصيدة:

لعل أهم النصوص النقدية في كتاب طبقات فحول الشعراء، هي تلك التي يقدم بها ابن سلام خصائص شعراء الطبقة الأولى الجاهلية، من خلال ال لكل واحد منهم. ونستطيع بمناقشة هذه النصوص الأربعة أن نستنتج آراءً نقدية قيمة عن بناء القصيدة العربية، هيكلها، وأغراضها ، ومعانيها، ولغتها. وأعتقد أن النص الخاص بشعر امرئ القيس يفيدنا في تبين الكثير عن هيكل القصيدة، أو إطارها الخارجي. يقول ابن سلام: (فاحتج لامرئ القيس من يقدمه قال: ما قال ما لم يقول، ولكنه سبق العرب إلى أشياء ابتدعها، واستحسنها العرب، واتبعته فيها الشعراء: استيقاف صحبه، والتبكاء في الديار، ورقة النسيب، وقرب المأخذ، وشبه النساء بالظباء وبالبيض، وشبه الخيل بالعقبان والعصي وقيد الأوابد، وأجاد في التشبيه، وفصل بين النسيب وبين المعنى) ص55ج1. وقد أورد ابن قتيبة هذا النص موجزاً(19)، واستشهده الآمدي دليلاً على تأثير المعاني المبتكرة في تقديم الشاعر(20). ويتضمن هذا النص ما يأتي:

1-إن التجديد المقبول هو ما يكون تعبيراً عن الذوق العام ورغبة المجتمع، ولذلك فامرئ القيس قد سبق الشعراء، ولكنه ما قال ما لم يقولوا، لأن العرب استحسنته، واتبعته فيه الشعراء. وقدم هذا المبتكر بطريقة مرغوبة عند العرب، تتمثل في ألفاظ قريبة المأخذ، وفي قالب تصويري واضح العلاقات هو التشبيه، وهذا التقديم يحقق طريقة العرب أو عمود الشعر(21). وهذا ما يبرر عناية ابن سلام بتشبيهات امرئ القيس ص81ج1، وتشبيهات ذي الرمة ص549ج1.

2- إن امرأ القيس قد أرسى بشعره منهج القصيدة العربية وبنائها، وهذا يعني أن البحث التاريخي عن أولية الشعر العربي، عند التركيز على القصيدة الناضجة، لا يطمئن إلى ما قبل امرئ القيس. ويشمل هذا البناء ما يأتي:
أ- استيقاف الصحب، والتبكاء في الديار.
ب- رقة النسيب. وشبه - فيه - النساء بالظباء والبيض.
ج- الفصل بين النسيب وبين المعنى. ويعني (إخلاص القول في النسيب، لا يخلطه بصفة ناقته أو فرسه أو صيده أو مآثره، فإذا فرغ من النسيب الخالص، أخذ في أي معنى من هذه المعاني) هامش ص55ج1.

ويعد هذا الفصل أمارة نضج في القصيدة العربية، فهو تحرير لأغراضها ليكتمل شكلها.
ويكشف وصفه لشعر الأعشى عن جانب من جوانب المعنى في القصيدة العربية، هو أغراضها، يذكر ابن سلام: (وقال أصحاب الأعشى: هو أكثرهم عروضاً، وأذهبهم في فنون الشعر، وأكثرهم طويلة جيدة، وأكثرهم مدحاً وهجاء وفخراً ووصفاً كل ذلك عنده. وكان أول من سأل بشعره، ولم يكن له مع ذلك بيت نادر على أفواه الناس كأبيات أصحابه) ص65ج1. ويتضمن هذا النص ما يأتي:

1- ضرورة تنوع أغراض الشاعر، وذلك لأنه دليل على المهارة والقدرة على صناعة الشعر، ويروي في تفضيل جرير أنه كانت له ضروب من الشعر لا يحسنها الفرزدق ص456ج1. وربما نتج عن تعدد الأغراض -كما في حالة الأعشى- تنوع الأوزان التي ينظم فيها شعره، أو ربما اتفق معها.

2- أغراض الشعر الرئيسية هي: المدح والهجاء والفخر والوصف، ويقرن ابن سلام الوصف بالتشبيه دليلاً على القرب بينهما، كما فعل أثناء حديثه عن تشبيهات امرئ القيس ص8ج1. ويلاحظ أن التفرد بالوصف أو التشبيه فقط لا يجعل من الشاعر فحلاً، كما في حالة ذي الرمة وكان أحسن الإسلاميين تشبيهاً ص55ج1. فقد شغل به عن الأغراض ذات الفعالية الاجتماعية وهي المدح والهجاء، قال ذو الرمة للفرزدق (فمالي لا أعدّ في الفحول؟ قال: يمنعك عن ذلك صفة الصحارى وأبعار الإبل) ص552ج2. ويفصل الخبر التالي موقف ذي الرمة من أغراض الشعر، الذي يتحدد وفق مكانته الشعرية: (قال البطين: أجمع العلماء بالشعر على أن الشعر وضع على أربعة أركان: مدح رافع، أو هجاء واضع، أو تشبيه مصيب، أو فخر سامق، وهذا كله مجموع في جرير والفرزدق والأخطل، فأما ذو الرمة فما أحسن قط أن يمدح، ولا أحسن أن يهجو، ولا أحسن أن يفخر، يقع في هذا كله دوناً، وإنما يحسن التشبيه فهو ربع شاعر)(22). ولأهمية المدح والهجاء في البيئة العربية، تحدث ابن سلام عن أخطاء بعض الشعراء فيهما مثل الأخطل ص469-471ج1، وأشار إلى الشعراء المتميزين في الهجاء مثل الراعي ص503ج1، كما أشار إلى المغلبين فيه مثل النابغة الجعدي ص125-140، وتميم بن أبي بن مقبل ص150ج1، وذي الرمة ص551ج2.

3- إن من أسباب تفضيل الشاعر وتقديمه: الإطالة والجودة، وقد اعتمده ابن سلام أساساً في ترتيب طبقاته كما قدمنا. ومن أمثلته قوله عن الأسود بن يعفر: (وكان الأسود شاعراً فحلاً... وله واحدة رائعة طويلة لاحقت بأجود الشعر، لو كان شفعها لمثلها قدمناه على مرتبته) ص147ج1.

4- إن الأعشى يعاب بأنه - رغم منزلته الشعرية- (لم يكن له مع ذلك بيت نادر على أفواه الناس: كأبيات أصحابه). وذلك لأن وحدة القصيدة هي البيت المستقل، وتتبدى الجودة في سيرورته على ألسنة الناس والرواة، وهو ما عبر عنه ابن سلام بقوله: ( كان الحطيئة متين الشعر، شرود القافية) ص104ج1. ومن ثم كانت عناية ابن سلام بالأبيات المقلدة، (والمقلد: البيت المستغني بنفسه، المشهور الذي يضرب به المثل) ص360-361ج1. وقدم مقلدات الفرزدق ص360ج1، ومقلدات جرير ص40ج1. ويكشف وصفه لشعر زهير عن سمات المعنى الجزئي من معاني الشعر يقول ابن سلام: (وقال أهل النظر: كان زهير أحصفهم شعراً، وأبعدهم من سخف، وأجمعهم لكثير من المعنى في قليل من المنطق، وأشدهم مبالغة في المدح وأكثرهم أمثالاً في شعره) ص64ج1. فتشير العبارة إلى ما يأتي:

1- إحكام الشعر، والصياغة الموجزة التي تكتنز الكثير من المعنى وتصيب الهدف منها، وبالتالي تكثر شوارد الأبيات والأمثال السائرة، التي تختزن التجارب في قليل من اللفظ. ولذلك امتدح الأخطل بأن (في كل بيت له بيتين) ص488ج1.

2- يتفق وصفه بالمبالغة في المدح مع ما روي عن عمر بن الخطاب أنه كان يفضل زهيراً لأنه (لا يمدح الرجل إلا بما فيه) ص63ج1، عندما تروى هذه العبارة على النحو: (لا يمدح الرجل إلا بما يكون للرجال)(23). ولا عبارة تشير -في روايتها الأولى- إلى الصدق الواقعي، أو (الصدق الأخلاقي) (24). وفي روايتها الثانية تشير إلى الصدق الفني، بتقديم المثال الفني للرجل.
وأخيراً يكشف وصفه لشعر النابغة عن سمات فنية خاصة بلغة الشعر، تميّزه وتفرق بينه وبين سائر الكلام، يقول ابن سلام: (وقال من احتج للنابغة: كان أحسنهم ديباجة شعر، وأكثرهم رونق كلام، وأجزلهم بيتاً، كأن شعره كلام ليس فيه تكلف، والمنطق على المتكلم أوسع منه على الشاعر، والشعر يحتاج إلى البناء والعروض والقوافي، والمتكلم مطلق يتخير الكلام) ص56ج1. ونستنتج من هذا النص ما يأتي:

1- إن لغة الشعر تمتاز بالجزالة وحسن الديباجة وكثرة الورنق، أي (جودة النسج واستوائه)(25). وقد وصف ابن سلام بهذه الأوصاف الغامضة وغيرها، لغة عدد من الشعراء مثل البعيث والقطامي ص535ج2. وأشار إلى فصاحة عدد من الشعراء مثل ذي الرمة ص569ج2 وعمروبن أحمر ص580ج2. وأشار إلى شدة أسر شعر عدد منهم مثل عبدالله بن قيس الرقيات، وابن الزبعري ص648ج2. وأشار إلى لين شعر عدي ابن زيد ص140ج1، وكذلك لين أشعار قريش ص245ج1.

2- إن لغة الشعر تفترق عن سائر الكلام بثلاثة عناصر هي: البناء، والعروض والقوافي. وقد أشار ابن سلام إلى أن الشعر لا يقوم بالوزن والتقفية فقط، فقد يتحققان فيه، ولا يعد بذلك شعراً، مثال ذلك ما يرويه ابن إسحاق لعاد وثمود: (فكتب لهم أشعاراً كثيرة، وليس بشعر، إنما هو كلام مؤلف معقود بقواف) ص8ج1. وهذه العناصر الثلاثة تضيق على الشاعر وتضطره، والضرورات دليل على التكلف، وغيابها -بالتالي- دليل على الطبع. وقد أشار ابن سلام -بهذا الصدد- إلى بعد زهير عن المعاظلة ص63ج1، وإلى مداخلة الكلام في شعر الفرزدق ص364ج1.

3- إن تشبيه شعر النابغة بالكلام، دليل على الطبع والبعد عن التكلف.
ويجب أن نشير إلى مؤثر مهم في موقف ابن سلام من لغة الشعراء، وذلك أنه ينتمي بحكم التلمذة ليونس بن حبيب ت182هـ، تلميذ أبي عمرو بن العلاء ت154هـ، إلى جناح معتدل من المدرسة البصرية، ويعبر عن ثقافة هذا الجناح واهتماماته العلمية قول ابن سلام عن أبي عمرو بن العلاء المازني التميمي (كان.. أوسع علماً بكلام العرب ولغاتها وغريبها) ص14ج1، ولذلك (كان أبو عمرو أشد تسليماً للعرب) ص16ج1.

ويقابل هذا الاتجاه اتجاه آخر يمثله عبدالله بن أبي إسحاق الحضرمي بالولاء ت117هـ، وتلميذه عيسى بن عمر الثقفي بالولاء ت117هـ، ت182هـ، وكان ابن أبي إسحاق (أول من بعج النحو، ومد القياس والعلل) ص14ج1. وكان أيضاً (أشد تجريداً للقياس) ص14ج1.وبسبب العناية بالقياس والحرص على الأقيسة (كان ابن أبي اسحاق, وعيسى بن عمر يطعنان على العرب) ص16 ج1 كان عيسى يقول:أساء النابغة في قوله حيث يقول:
فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع
يقول:موضعها (ناقعا) ص16 ج 1. وقال ابن أبي اسحاق للفرزدق في مديحه يزيد بن عبدالملك :
مستقبلين شمال الشأم تضربنا بحاصب كنديف القطن منثور
على عمائمنا يلقى وأرحلنا على زواحف تزجى مخها رير
أسأت، انما هي رير،وكذلك قياس النحو في هذا الوضع. وقال يونس:والذي قال ـ يقصد الفرزدق - حسن جائز ص17 ج1. ونحن نجد ابن سلام ـ وهو تلميذ يونس بن حبيب.ص35 من مقدمة المحقق) ـ يذكر اختلاف شيخيه يونس وأبي عمرو مع ابن ابي اسحاق وتلميذه عيسى بن عمر في قراءة آية ويؤكد صحة موقفهما برأي سيبويه ص19 ـ20 ج1. ومما سبق نتوقع من ابن سلام موقفا متعاطفا مع العرب، يشبه موقف أستاذيه يونس وأبي عمرو. ولعل أول دلائله أنه قصر كتابه على شعراء الجاهلية والإسلام والمخضرمين، وترك الشعراء المحدثين من معاصريه وغيرهم، مع أنه يروى عنهم في كتابه آراءهم في الشعراء السابقين، ومن هؤلاء المعاصرين الشاعران بشار بن بردص374،456 ج1، ومروان بن أبي حفصةص377 ـ ج1 540،548 ج2 ونستطرد فنشير إلى أن موقفه من المولدين، قد يتشابه معه موقف تاليه من النقاد، فإذا كان ابن سلام في حديثه عن الإقواء بوصفه من عيوب الشعر ص68 ج1، يقول : (ولايجوز لمولد لأنهم قد عرفوا عيبه، والبدوي لا يأبه له فهو أعذر)ص71 ج1 . ونستنتج، منه أمرين:


الأول: أن المولد يعاب في هذا الصدد، دون البدوي، لأن التقنين لعلوم العربية قد نبه إلى هذه العيوب.

الثاني: أن البدوي أعذر من المولد فيما يأتي من هذه العيوب، وهذا ما نجده لدى الآمدي معللا بكون البدوي يقول بطبعه، ولا يحتذى على مثال، ولا يأخذ من متقدم، لذا هو أعذر عندما يخطئ، وهو أفضل عندما يجيد(26).


- يتبع


توقيع : أحزان ليل





التعديل الأخير تم بواسطة أحزان ليل ; 29-04-03 الساعة 03:57 AM
أحزان ليل غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس