عرض مشاركة واحدة
قديم 29-04-03, 03:49 AM   #3

أحزان ليل
العضوية البرونزية

رقم العضوية : 629
تاريخ التسجيل : Jan 2003
عدد المشاركات : 451
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ أحزان ليل

ب-الشعر والكذب:

لعل من الدلالات المهمة للكذب في الشعر دلالة فنية، تربط بينه وبين التصوير، نجدها واضحة في ربط بعض الفلاسفة المسلمين أثناء شرحهم لكتاب فن الشعر لأرسطو بين التخييل والكذب(10). كما تتمثل أيضاً في قول عبدالقاهر الجرجاني 471هـ: (ومن قال -(خير الشعر) أكذبه- ذهب إلى أن الصنعة إنما يمد باعها، وينشر شعاعها، ويتسع ميدانها، وتتفرع أفنانها، حيث يعتمد الاتساع والتخييل، ويدعي الحقيقة فيما اصله التقريب والتمثيل، وحيث يقصد التلطف والتأويل، ويذهب بالقول مذهب المبالغة والإغراق في المدح والذم والوصف والبث والفخر والمباهاة وسائر المقاصد والأغراض، وهناك يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يبدع ويزيد، ويبدأ في اختراع الصور ويعيد، ويصادف مضطرباً كيف شاء واسعاً، ومدداً من المعاني متتابعاً)(11).

وكذلك هناك دلالة أخلاقية للكذب في الشعر، استناداً على وصف القرآن الكريم للشعراء بقوله تعالى: (وأنهم يقولون مالا يفعلون) س الشعراء ي 226، وقد استشهدها أبو العلاء المعري في رسالة الغفران حين قال: (والشعراء مطلق لهم ذلك لأن الآية شهدت عليهم بالتخرص وقول الأباطيل)(12).ونحن نجد هذه الدلالة الأخلاقية -في الغالب- لدى من تغلب عليهم الثقافة العربية على سبيل المثال أبو هلال العسكري في كتاب الصناعتين(13)، وابن رشيق القيرواني ت463هـ، في كتابه العمدة -حيث يذكر أن من فضائل الشعر أن (الكذب الذي اجتمع الناس على قبحه حسن فيه، وحسبك ما حسّن الكذب واغتفر له قبحه)(14).
ونجد في كتاب طبقات فحول الشعراء نصوصاً، تشير: إلى ذلك الارتباط بين الشعر والكذب، هي:

1- يروي ابن سلام عن عمرو بن معاذ المعمري: (في التوراة: أبو ذؤيب مؤلف زورا. وكان اسم الشاعر بالسريانية مؤلف زورا. فأخبرت بذلك بعض أصحاب العربية وهو كثير بن إسحاق فأعجب منه، وقال: قد بلغني ذلك) ص132ج1.وبعد أن استبعد السريانية من السياق، إذ العبارة -على هذا الشكل الأخير- عربية خالصة، تشير إلى من يؤلف الزور، وكأن في الشعر أمرين: التأليف والزور. والزور -في لغة العرب- (الكذب والباطل، وكلام مزور: مموه بكذب، وقيل: محسن، وقيل: هو المثقف قبل أن يتكلم به.. التزوير تزيين الكذب.. التزوير: التشبيه، والتزويق والتحسين. وزورت الشيء حسنته وقومته. وقال الأصمعي:التزوير تهيئة الكلام وتقديره)(15).
وعلى ذلك فالشعر لدى ابن سلام يرتبط بالكذب، بدلالته الأخلاقية والفنية على السواء، فكما تشير كلمة الزور إلى الباطل والكذب، تشير إلى التحسين.

2- يذكر ابن سلام عن كعب بن مالك (وكان أحد الثلاثة اللذين تخلفوا عن تبوك.. ويروي أن قومه قالوا في ذلك: لو اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض ما يعتذر به إلى الناس، عذرك قال: إني لأصنعهم لساناً وأقدرهم على ذلك، ولكن والله لا أعتذر إليه بكذب. وإن عذرني فيطلعه الله عليه) ص222-223ج1
فيذكر ابن سلام أن قوم هذا الشاعر أشاروا عليه أن يعتذر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ببعض ما يعتذر به إلى الناس على عادة الشعراء؛ كالنابغة. فأجاب كعب بما يتضمن ارتباط الشعر: بصناعة اللسان، ومقدرة خاصة بالشعر، وهما يرتبطان بالكذب. وهو لا يروج هذه المرة فقط لكون المتلقي نبياً يوحى إليه. ولكن ابن رشيق يرى أن الكذب في الشعر يغتفر، ويورد خبر كعب بن زهير واعتذاره بقصيدته (بانت سعاد) بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها قوله:
والعفو عند رسول الله مأمول
قرآن فيه مواعيظ وتفصيل
أذنب ولو كثرت في الأقاويل
أنبئت أن رسول الله أوعدني
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة ال
لا تأخذني بأقوال الوشاة فلم

ويعلق ابن رشيق (فلم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وما كان ليوعده على باطل، بل تجاوز عنه ووهب له بردته)(16).

3-يقول ابن سلام عن ابن داوود بن متمم بن نويرة (فلما نفد شعر أبيه، جعل يزيد في الأشعار ويصنعها لنا، وإذا كلام دون كلام متمم، وإذا هو يحتذى على كلامه، فيذكر المواضع التي ذكرها متمم، والوقائع التي شهدها، فلما توالى ذلك علمنا أنه يفتعله) ص47-48ج1.
فندرك من هذا النص أن الافتعال والتزيد يتحققان بواسطة الصناعة. وكلمة الصناعة تحمل دلالات: العمل، والمهارة، وكل ما ليس طبيعياً، (والتصنع التكلف للحسن والتزين)(17). كما يشير هذا النص إلى أن من صميم عمل الناقد -وخاصة من في ظروف ابن سلام- التمييز بين الأساليب، فعلى الرغم من تشابه محتوى الشعر الأصيل والشعر الزائف، إلا أن في الصياغة أشياء أصيلة تميز كل شاعر بأسلوب معين. وكذلك في قوله (في الشعر مصنوع مفتعل موضوع كثير لا خير فيه) ص4ج1، تسبق الصناعة الافتعال والوضع. وإذا كان المصنوع (يحمل معنى الشك فيه، أو الشك في نسبته إلى قائله)(18) فإن ارتباطه بالكذب على صاحبه واضح، فقد أضيف إليه مع أنه لم يصدر عن طبعه.

فالافتعال والوضع هما في الحقيقة افتعال للصناعة فإن (للشعر صناعة وثقافة يعرفها أهل العلم به كسائر أصناف العلم والصناعات) ص4ج1.أي أن للشعر -عموماً- ملكة يصدر عنها، بوصفه واحداً من المهارات العقلية والانتحال هو افتعال هذه الملكة وتزييفها أو ادعاؤها.بقي أن نشير إلى أن هناك نصاً ينسب إلى عمر بن الخطاب، يربط فيه بين الشعر والصدق، وذلك حين فضل زهيراً لأنه (لا يمدح الرجل إلا بما فيه) ص63ج1. ولكن تمييز زهير بهذه الخاصية، وتقديمه على سائر الشعراء بسببها، دليل على مخالفة عامتهم في الاتصاف بالصدق. كأن الأصل في الشعر الكذب، وهذا الشاعر -بسبب الحس الأخلاقي ربما لعمر- يتسم شعره بالصدق.



- يتبع


توقيع : أحزان ليل





أحزان ليل غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس