عرض مشاركة واحدة
قديم 01-09-09, 03:17 PM   #12
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: سطور دافئة بقلم الكاتبة مي زيادة


[align=center]الفصل الثالث



صالون .. مي


كانت مي فتاة جميلة .. جمالها شرقي يرتدي مسحة من أخيلة الغرب .. وكانت جاذبيتها ليست في جمالها فحسب .. بل في عقلها الذي كان يبهر عمالقة الفكر والأدب في هذا العصر . ومنهم الدكتور طه حسين والمفكر عباس محمود العقاد والكاتب مصطفى صادق الرافعي وخليل مطران وأحمد لطفى السيد وعدلي يكن وغيرهم كثيرون.

كانت في عيونهم جميعاً شعاعاً جميلاً .. يتدفق فكراً وأدباً وثقافة مع لطف في الأخلاق وأسلوب مهذب .. أنيق في الترحيب والاستقبال .. فكان بيتها ملاذاً للجميع لا تحت تأثير مشاعرهم التي تحركت نحوها .. بل أيضاً تحت تأثير هذا الجو العقلي الذي كان من النادر جداً وجوده عند غالبية نساء ذلك الزمان .

كان عصر الحجاب .. حجاب الوجه وحجاب التقاليد الاجتماعية الصارمة خاصة تجاه المرأة وخروجها العام إلى المجتمع . وكانت مي التي نشأت في الاوساط المارونية ذات الثقافة الأوربية مختلفة تماماً عن صورة المرأة الشرقية في هذا الوقت .. فجذبت العقول كما جذبت القلوب .

وكانت مي الفتاة الشابة القادمة من لبنان هي الوحيدة في عصرها التي استطاعت أن تحرر فكرها وحياتها من أسلوب الحياة السائد بين النساء في ذلك الوقت في مصر.

ولكن كيف ولدت فكرة الصالون في خاطر مي ؟

تأثرت مي بتجربة شهيرة في مطلع النهضة الأوربية خاصة في عصر لويس الرابع عشر في فرنسا حيث كان صالون مدام ريكاميه .. وكانت سيدة على جانب كبير من العلم والذكاء جعلت من إحدى غرف بيتها منتدى لتحريك الأفكار وتبادل الرؤى الثقافية والفكرية وعرفت هذه الغرفة بـ " الغرفة الزرقاء" . كما كان هناك صالون آخر شهيراً هو صالون مدام دوستايل .

وتأثرت مي كثيراً بصالون مدام دوستايل من حيث اهتمام مناقشاته وندواته بالتراث العالمي كله , فقد كانت مي تتقن عدة لغات قراءة وكتابة .

لم يكن هذا هو السبب لوحيد الذي دفع بالفكرة إلى رأس مي .. بل جاء الإيحاء من أستاذها أحمد لطفي السيد الذي كان من أهم الذين تأثرت بهم مي , وتتلمذت على أفكارهم وطاعت نصائحهم . والتأثير الأكبر الذي أحدثه أحمد لطفي السيد في حياة مي هو تشجيعها على دراسة اللغة العربية وإتقانها وكذلك قراءة القرآن والفقه الإسلامي , وهذا ما شجعها على الكتابة باللغة العربية بعد أن كانت تكتب فقط باللغات الأجنبية التي تجيدها . وكان أول ديوان لها باسم " زهرات حلم" باللغة الفرنسية.

ويبدأ في مايو 1913 أشهر صالون أدبي شهده القرن العشرون صالون مي .. ليكون ملتقى كبار مفكري وأدباء وفناني مصر وسوريا وكبار الأدباء الأوربيين الزائرين لمصر .

كيف كان شكل صالون مي؟.. ماذا كان يدور في أمسيات الثلاثاء الفريدة ؟ كيف كانت نجمة الأدب والفكر تشرق بذكائها ونبوغها خلال تلك الأمسيات .. وكيف كانت تخلب عقول وقلوب كبار مفكري عصرها ؟ ماذا لو أدرنا عجلة الزمن لنعود إلى الزمن الجميل . ونستمع إلى ضيوف مي من عمالقة الفكر والأدب وكيف وصفوا هذا الصالون الأدبي الفريد..

•يصف الكاتب اللبناني سليم سركيس صالون مي فيقول :

مساء كل ثلاثاء يتحول منزل إلياس أفندي زيادة صاحب جريدة " المحروسة" إلى منزل فخم في باريس .. وتتحول مي التي لا تزال في العقد الثاني من عمرها إلى مدام دوستايل , أ, ولادة بنت المستكفي , أو وردة اليازجية في شخص ومدارك الآنسة مي , ويتحول مجلسها إلى فرع من سوق عكاظ , وتروج المباحث العلمية والفلسفية والأدبية في مجلس يحضره إسماعيل صبري , وشبلي شميل , وخليل مطران , وأحمد زكي اشا . هؤلاء جميعاً يهزون بأحاديثهم ومناقشاتهم أغصان شجرة ذات ثمر . ويحركون وردة ذات أريج , والآنسة مي بينهم تناقش هذا , وتدافع عن ذاك..

•ويصفها المفكر الكبير محمود عباس العقاد فيقول:

كل ما تتحدث به مي ممتعا كالذي تكتبه بعد روية وتحضير , فقد وهبت ملكة الحديث في طلاوة ورشاقة وجلاء , ووهبت ما هو أدل على القدرة من ملكة الحديث وهي ملكة التوجيه وإدارة الحديث بين مجلس المختلفين في الرأي والمزاج والثقافة والمقال , فإذا دار الحديث بينهم جعلته مي على سنة المساواة والكرامة وأفسحت المجال للرأي القائل الذي ينقضه أو يهدمه وانتظم هذا برفق ومودة ولباقة ولم يشعر أحد بتوجيه الكلام منها , وكأنها تتوجه من غير موجه , وتنتقل بغير ناقل وتلك غاية البراعة في هذا المقام.

•ويتحدث عميد الأدب العربي طه حسين ن ذكرياته في صالون مي .. فيقول :

كان الذين يختلفون إلى الصالون متفاوتين تفاوتاً شديداً فكان منهم المصريون على تفاوت طبقاتهم ومنازلهم الاجتماعية وعلى تفاوت أعمارهم , وكان منهم السوريون ومنهم الأوربيون على اختلاف شعوبهم وكان منهم الرجال والنساء وكانوا يتحدثون في كل شيء ويتحدثون بلغات مختلفة وبالعربية والفرنسية والانجليزية خاصة .

ولكن كيف وأبن بدأ أهم وأشهر صالون أدبي في القرن العشرين .. صالون مي ؟

كانت البداية في الحفل الكبير الذي أقيم في بهو الجامعة المصرية لتكريم الشاعر خليل مطران بمناسبة الإنعام عليه بوسام رفيع .. وبعد أن ألقت مي كلمة الكاتب المغترب جبران خليل جبران نيابة عنه . خطفت القلوب واستأثرت على العقول .. وبعد أن عقبت على كلمة جبران . اشتعل حماس الجمهور لهذه الأديبة الشابة .. وصارت منذ تلك اللحظة حديث الناس.

في هذه الليلة دعت مي الحاضرين إلى الصالون الأدبي الجديد الذي قررت أن تقيمه في بيتها مساء كل ثلاثاء . في بيتها بشارع مظلوم وهكذا بدأ صالون مي الذي استمر لفترة طويلة حوالي ربع قرن يجمع عمالقة الفكر والثقافة والسياسة والأدب .. وتدور في أمسياته أعمق وأغنى المناقشات والحوارات .. ويتبارى الكتاب والشعراء والفلاسفة في عرض أفكارهم وثقافاتهم ورؤاهم المختلفة .. وتحول هذا الصالون إلى منبر قوي يدعم تيار الفكر والثقافة الذي كان مزدهراً في ذلك الوقت , ويسهم بدور هام في تحريك الأفكار وشحذها وتفاعلها الايجابي فأثرت الحياة الأدبية في مصر وغيرها من بلاد العالم العربي.

وكان المترددون على ندوتها يتحدثون في شتى الموضوعات الفكرية والأدبية . يتكلمون بالعربية أو بغيرها من اللغات الأجنبية , أما مي فكان حديثها دائما باللغة العربية الفصحى .

ووصف العقاد الأحاديث التي كانت تدور في ندوة مي بقوله : لو جمعت هذه الأحاديث لتألفت منها مكتبة عصرية تقابل مكتبة " العقد الفريد " و " مكتبة الأغاني " في الثقافتين الأندلسية والعباسية .

ورأى هؤلاء المفكرون في مي الشخصية الفريدة التي جمعت بين الثقافة الرفيعة والأخلاق الفاضلة فازدادوا إيماناً بضرورة تعليم الفتاة وتشجيعها على الثقافة وصقل الذات بالمعرفة .

وأطلق عليها أدباء ومفكرو عصرها العديد من الألقاب منها : الأديبة .. النابغة .. فريدة العصر .. ملكة دولة الإلهام .. حلية الزمان .. الدرة اليتيمة .. وغيرها من الألقاب التي تعكس قدر الاحترام والإجلال اللذين حظيت بهما مي من كتاب عصرها.

ولكن ورغم كل هذا التوهج واللمعان في سماء الفكر والأدب .. هل كانت أديبتنا النابغة سعيدة ؟ هل أضاءت تلك الشمس المشعة حياتها .. أم أشرقت فقط في حياة الآخرين ؟! واحترقت هي ؟! هذا ما سوف نعرفه في الفصول القادمة ..!
__________________[/align]


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس