عرض مشاركة واحدة
قديم 01-09-09, 03:12 PM   #10
 
الصورة الرمزية okkamal

okkamal
المشرف العام

رقم العضوية : 2734
تاريخ التسجيل : Apr 2005
عدد المشاركات : 14,840
عدد النقاط : 203

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ okkamal
رد: سطور دافئة بقلم الكاتبة مي زيادة


[align=center]الفصل الأول

طفولة مي


الليلة ترحل آخر الفتيات عن مدرسة الدير .. مدرسة عينطورة للبنات ببلدة شحتول في لبنان ..

الليلة ستقضي " ماري " ليلتها وحيدة .. سجينة هذه الجدران المتهجمة . ستقضي الفتاة الصغيرة ذات الأربعة عشر ربيعاً ليلة العيد حزينة .. بعيدة عن بيت أسرتها البعيد في مدينة " الناصرة " بفلسطين .

سوف تسافر ماري إلياس زيادة بخيالها ونبضات قلبها إلى حيث الدفء الساكن هناك في بيتها مع أمها التي تحبها كثيراً ووالدها الذي يغمرها بشلال من حنان .

لكن سرعان ما يصطدم الخيال بالواقع . وتجد ماري نفسها وسط ثليج الوحدة خاصة بعد رحيل آخر صديقاتها المقربات لقضاء أجازة العيد مع الأهل . وتهرب ماري من وحدتها وآلامها مع تسلل الصباح وشروق الشمس .. تلقى بنفسها وسط الحدائق الواسعة المحيطة بالدير .. مع أصدقائها الذين لا تمل صحبتهم أبداً هوجو , لامارتين , شاتوبريان ..

في هذا الوقت فقط ينبعث الدفء من جديد في أوصالها .. وتسري حرارة الحياة في وجدانها .. وعندما تعود إلى غرفتها بمدرسة الدير تكون قد امتلأت بمشاعر هؤلاء الأصدقاء , وغاصت في أفكارهم وأحلامهم . فتجلس .. وتكتب .

هكذا كانت طفولة ماري التي اختارت فيما بعد الحرف الأول والحرف الأخير من اسمها فقط ليكون اسمها الأدبي : " مي " طفولة قاسية.. في مدارس داخلية للراهبات . الأولى كانت مدرسة اليوسفيات في " الناصرة " حيث ولدت بفلسطين – وطن الأم – وكانت في السادسة من عمرها في ذلك الوقت . وبعدما أنهت دراستها الابتدائية في تلك المدرسة , ألحقها والدها بمدرسة الزيارة في " عينطورة " بلبنان حيث وطنه هو .. وهناك أحست الصغيرة بانتزاع الدفء والأمان لأول مرة .. وعاشت الوحدة والقلق اللذين لازماها حتى آخر العمر.

في مدرسة " الزيارة " أدهشت الفتاة الصغيرة مدرساتها بتفوقها في دروسها وحبها الشديد للشعر وقدرتها على دراسة اللغات , فقد أتقنت خمس لغات هي العربية , والفرنسية , والإنجليزية , والإيطالية , والألمانية .

ويبدو أن فترة الطفولة التي عاشتها ماري زيادة بين بيروت وفلسطين سيمتد تأثيرها على حياتها كلها بعد ذلك .. وستحفر بصماتها العميقة على تكوينها النفسي والإنساني بصفة خاصة.

فقد عاشت ماري سنوات الطفولة وبداية الشباب في مدارس الراهبات المعروفة بالشدة والحزم الذي يصل إلى حد القسوة أحياناً ..
عاشت معظم سنوات طفولتها وحيدة بعيداً عن أمها الفلسطينية نزهة المعمر , وأبيها اللبناني إلياس زيادة المدرس البسيط .. ولأنها طفلة موهوبة , خُلِقت تحمل صفات النبوغ والتفرد فقد حولت أحزانها وحرمانها منذ طفولتها المبكرة إلى غوص عميق في دروب الفكر والثقافة ورغبة غير محدودة في الاكتشاف والمعرفة.

تعلمت منذ البداية كيف تقهر مشاعرها , وتحاصرها .. وأمسكت بقوة لجام قلبها حتى لا يفلت من بين يديها . وينطلق صارخاً بآهاته وأناته .. بأحلامه وأوجاعه .

وفي الوقت الذي فعلت فيه ذلك بقلبها . أطلقت لعقلها كل الحرية لينطلق ويفكر ويحلل ويكتشف ويبحر . وهنا في رأيي مكمن مأساة ماري زيادة .. أو الآنسة مي التي احتلت مكانة لم تحتلها أديبة عربية أخرى في زمانها أو في الأزمنة التي تلته .. وحتى الآن .

الفجوة الرهيبة بين القلب والعقل ! الحصار المخيف .. والإنطلاق غير المحدد للفكر .. المحافظة الشديدة .. مع التمرد والتحرر على كل أنماط الفكر التقليدي . هكذا جمعت مي بين النقيضين .. ومن هذا التناقض الجوهري تولدت كل تناقضاتها الأخرى . وبسبب هذا الصراع الداخلي الرهيب انتهت حياتها المتوهجة بالفكر والنجاح والتألق لتلك النهاية المأساوية الحزينة .

قصتها.. قصة تراجيدية بكل ما تحمله الكلمة . قصة امرأة توهجت كالشمس كظاهرة فريدة في عصرها .. التف حولها كبار مفكري مصر والعالم العربي .. واحترم فكرها ونبوغها الأدباء والشعراء .. ووقع في حبها الكثيرون منهم .. وكان دائماً حباً من طرف واحد ! فقلب مي كان دائماً مغلقاً .. بإحكام في وجه الجميع !!

وكانت مي تعبر أحياناً في كتاباتها عن هذه المشاعر الحائرة فتقول : " ولدت في بلد وأبي من بلد وسكني في بلد وأشباح نفسي تنتقل من بلد إلى بلد فلأي هذه البلاد أنتمي . إنما أريد وطناً لأموت من أجله أو لأحيا به ".

لقد كانت تجيب دائماً عند السؤال عن وطنها فتقول : " أنا فلسطينية .. لبنانية .. مصرية .. سورية " وهي في داخلها لا تعرف لأي البلاد تنتمي حقاً .. وانسحب هذا الشعور بعد ذلك على البشر وعلاقتها بالناس . فرغم الشهرة العظيمة التي حققتها وزحام الرجال من المفكرين والأدباء والمبدعين الغارقين في حبها .. إلا أنها لم تشعر بالانتماء إلى أي واحد منهم .. إلا واحد هو جبران خليل جبران .. الذي أحبته على الورق فقط ! من خلال الرسائل المتبادلة بينها من القاهرة .. وبينه من المهجر حيث كان يعيش في أمريكا !!

لا شك أن سنوات طفولة مي كانت بالغة التأثير في حياتها كلها بعد ذلك .. وربما كانت الجوانب الإيجابية أيضاً خلال تلك الفترة قوية وعميقة .. فقد أجادت مي اللغة الفرنسية إجادة تامة وحفظت الكثير من الأشعار الفرنسية خاصة أشعار الرومانسية مثل : لامارتين وديه موسيه , وتعلمت التمثيل والموسيقى والعزف على البيانو .. كما تعلمت ركوب الخيل ومارسته في وديان وسهول لبنان ..

وقبل أن نترك الحديث عن طفولة مي لا بد أن نذكر أنها فقدت شقيقتها الوحيد في طفولتها ... وكتبت لتعبر عن مشاعرها تجاه هذا الشقيق تقول :
" إلى العينين التي أطبقهما الموت قبل أن ألثمهما .. إلى الابتسامة التي لا أعرف منها إلا خيالاً .. إلى الاسم العذب الذي لا تهمس به شفتاي دون أ، تملأ عيني الدموع .. إلى الطفل الذي رحل إلى خالقه ويتم فيّ عاطفة الحب الأخوي الأخوي , فحرمني من حنو الأخ وقبلته وابتسامته ودمعته .. إلى أخي الوحيد الذي تقاسم الأثير والثرى !


***
__________________
To be or not to be
[/align]


okkamal غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس