الموضوع: قريه بلا رجال
عرض مشاركة واحدة
قديم 03-06-09, 03:16 PM   #2
 
الصورة الرمزية حسين الحمداني

حسين الحمداني
هيئة دبلوماسية

رقم العضوية : 11600
تاريخ التسجيل : Sep 2008
عدد المشاركات : 5,724
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ حسين الحمداني
رد: قريه بلا رجال


بعد دقائق لا تزيد علي العشر‏..‏ جاءت صينية الطعام‏..‏ عيش مرحرح‏+‏ جبن قديمة حادقة‏+‏ طبق قشطة‏+5‏ بيضات مسلوقات لتوها‏.‏

يقتحم علينا الدوار بخبطة من عصاه الطويلة شيخ يلبس العمامة البيضاء‏,‏ وتتدلي من وجهه ذقن في لون اللبن الحليب‏..‏

صاحت صبية بالباب‏:‏ حضرة العمدة‏..‏

انفض من حولي سامر نساء القرية‏..‏ بعد أن دخل حضرة العمدة وصاح فيهن‏:‏ إنجري يابت إنت وهي‏..‏ خللي عندكم شوية خشا‏!‏

أهلا ياسيدنا الأفندي‏..‏ الخفر قالو لي شرفت منشية المعصرة‏..‏ خليك مطرحك‏..‏ كمل فطارك‏..‏

قلت له‏:‏ اتفضل ياعمدة

قال‏:‏ سبقتك بعد صلاة الفجر‏..‏

دار حديث طويل مع حضرة العمدة‏..‏ اتبعته بجولة طويلة في حواري القرية وحقولها‏..‏ بعد أربع ساعات‏..‏ وجدنا هيصة وزعيق وغبار سيارات قادمة من البندر‏..‏

لقد أتي عمنا موسي بولس بحملة بوليسية كاملة مدججة بالرجال والعتاد من شرطة أسيوط لإنقاذي من براثن نساء قرية بلا رجال ليجدني في جلسة أنس ومرح معهن ومعنا حضرة العمدة‏..‏ وسط حقول الحنطة‏!‏

..................‏
‏..................‏

هذا ما حدث بالضبط‏..‏ وما لم أكتبه او كتبته ولم ينشر ولكن الذي كتبته يومها في الصفحة الثالثة التي أكتب فيها آلآن كان شيئا آخر‏!‏

اسمحوا لي أن أنقل بالحرف ما كتبته وعمري ثلاثة وعشرون عاما‏..‏ في ثاني عام لي في الأهرام‏:‏

**‏ خبراء المركز القومي للبحوث الجنائية مهتمون هذه الأيام بقرية صغيرة ترقد في دهشة كطفل يتيم عند أقدام الجبل الشرقي للنيل‏..‏ جنوب أسيوط‏.‏

قرية لا يقف عليها قطار‏..‏ ولا يمر بها طريق‏..‏ اسمها منشية المعصرة‏.‏

وحكايتها أن الثأر فيها قد اشتعل ولم يعد علي أرضها سوي‏14‏ رجلا يعيشون وسط‏356‏ امرأة‏.‏

كيف يعيش‏14‏ رجلا‏..‏ هم كل ما بقي في القرية من رجال وسط مملكة النساء والأطفال‏.‏؟

ثم كيف تعيش‏356‏ امرأة وفتاة بلا عائل‏..‏ بلا أزواج أو آباء وأبناء كبار‏..‏ يمسحون عن أعينهم تعب الليالي وشقاء البحث عن لقمة العيش؟

كيف تمضي الحياة بـ‏135‏ طفلا وصبيا صغيرا‏..‏ ماتت علي شفاههم منذ زمن ليس بالقصير كلمة أبويا؟

***‏

الطريق إلي القرية طويل وشاق‏38‏ كيلومترا بالسيارة إلي الجنوب من أسيوط و‏3‏ كيلومترات لابد أن تقطعها علي قدميك في طريق ضيق علي حافة مصرف قديم جف ماؤه‏.‏

وشمس الصيف في الصعيد تلفح الوجوه‏,‏ والأرض المتربة تلسع الأقدام ولا أشجار علي الطريق‏,‏ ولا ظلال‏.‏

وعلي أبواب القرية نخيل عال‏..‏ يلفها بستان من الغموض‏..‏ ورجل طويل أسمر كعود المسك يجري مقبلا من داخل القرية‏:‏ أهلا وسهلا‏..‏ أنا نيازي عامل التليفون‏..‏ العمدة منتظركم من الصبح‏.‏

وأطفال صغار وصبية في طرقات القرية وحواريها الضيقة يلعبون‏.‏

ـ دا أنا اجتلك وأجتل أبوك‏..‏

وتبحث عن مصدر الصوت‏..‏ ويقول نيازي‏:‏

ـ دول عيال بيلعبوا‏..‏ طول النهار خناجات وضرب في الحارة‏.‏

الرجل الذي عاش المأساة

ومنزل العمدة في أول القرية في قلب النخيل‏..‏ متواضع‏..‏ حجرتان وحظيرة للبهائم‏..‏ بالطوب بلا بياض‏..‏ والعمدة بقامته الطويلة علي الباب‏:‏

ـ انتم شرفتوا‏..‏ القهوة ياولد‏..‏

ومن خلال تجاعيد وجهه‏..‏ والحزن الكبير الذي يسيل علي شفتيه الجافتين يتكلم العمدة محمد عبدالسلام‏(52‏ سنة‏):‏

ـ بلدنا دي كل يوم والتاني فيها ضرب نار‏..‏ بالليل بالنهار في أي وجت وكل شهر اتنين تلاتة ينجتلوا بالرصاص‏..‏ وخمسة أو ستة يروحوا السجن‏..‏

والعيل الصغير من عشر سنين أصبح يطخ بالنار‏..‏ وأمه تفضل تشربه التار‏..‏ اجتل ياواد إللي جتل أبوك‏..‏ خد تار ولد عمك ولد خالك‏,‏ وفي الآخر العيل يشيل السلاح ويروح جاتل واحد أو اتنين وساعات ثلاثة من العيلة التانية‏.‏

ويضرب العمدة كفا علي كف ويقول‏:‏

ـ دول ماكانوش شوية برسيم ياولاد‏.‏

ـ برسيم إيه ياعمدة؟

يقول العمدة‏..‏ وفنجان القهوة يهتز في يده المعروقة‏..‏

ـ سبب التار إللي عمره أكثر من‏40‏ سنة‏..‏ في يوم حمارة واحد من عيلة المحمدية أكلت شوية برسيم من غيط واحد من عيلة الزعارتة‏..‏ جامت خناجة كبيرة‏..‏ وبالليل ضرب الرصاص اشتغل بين العائلتين‏..‏ مات من هنا رجالة ومات من هنا رجالة‏..‏

ومن يومها والتار جايد نار بين المحمدية والزعارتة‏..‏ لحد ماراحت رجالة العائلتين‏..‏ وفضلت العيال والنسوان في البيوت‏..‏ طيب يعيشوا كيف؟

ويسكت العمدة لحظة وحبات العرق تلمع فوق جبهته المعقدة‏..‏ وبقايا قهوة في قاع فنجانه‏..‏

ـ سيجارة ياعمدة‏.‏
ـ كتر خيرك‏..‏ باشرب سجاير لف‏..‏

يدخل طفل صغير ليحمل صينية القهوة الفارغة‏..‏ ويشير العمدة إليه ويقول‏:‏
ـ ده عوض ابن محمد ابن اللي جتلوه السنة اللي فاتت‏.‏

ـ ازاي؟
يقول العمدة وفي عينيه آثار دموع جفت‏:‏

ـ جماعة جتلوا أخو قناوي أبوالعلا‏..‏ ولما اكتشف قناوي مقتل أخيه‏..‏ تركه في الغيط وسحب بندقيته وجري يدور علي اللي جتلوا أخوه‏..‏ وبالصدفة قابل محمد ابني عامل التليفون قبل نيازي‏..‏ فراح ضاربه بالرصاص‏.‏

هنا المرأة هي كل شيء
كيف تعيش المرأة في القرية بعد أن فقدت حنان الأب ورعاية الزوج وحماية الابن؟

كيف تشق المرأة طريقها لتلتقط رزقها وفي عنقها أطفال صغار فقدوا أباهم قبل الأوان؟

القرية كلها تملك‏76‏ فدانا فقط من الأراضي المحيطة بها‏..‏ وهذه الفدادين موزعة علي كل الأسر داخل القرية‏..‏ أغني بيت في القرية لا يملك أكثر من‏9‏ أفدنة‏,‏ وهو بيت العمدة‏..‏

أما بقية البيوت فيتراوح ما تملكه بين‏3‏ أفدنة وبضعة قراريط وعندما فقدت القرية رجالها وشبابها واحدا بعد واحد راحت المرأة تشق طريقها للبحث عن الرزق‏.‏

موكب الباحثات عن الرزق
وفي كل صباح‏..‏ ومع مطلع الشمس يخرج من القرية موكب طويل للباحثات عن الرزق‏..‏ والمركب يضم أكثر من‏50‏ أرملة تحمل كل منهن جرة كبيرة فوق رأسها مملوءة باللبن‏..‏ لتبيعها في مدينة أسيوط علي بعد كيلومترات من القرية‏..‏

يقطعها الموكب مرتين كل يوم‏..‏ مع طلوع الشمس في طريق الذهاب‏..‏ ومع الغروب عند العودة‏..‏

ضريبة الدم
ودور المرأة في القرية يخرج عن دائرة البحث عن لقمة العيش وتربية الأولاد قليلا‏..‏

فالمرأة التي فقدت زوجها أو أباها أو أخاها‏..‏ لا تكتفي بزوج قتيل‏..‏ وأخ ملقي في السجن‏.‏

فمع كل لقمة عيش تدسها في فم طفلها تهمس في أذنه بكلمة رهيبة‏..‏

الثأر‏.‏
الثأر لأبيه وأخيه وعمه وابن عمه‏.‏

وتقتصد المرأة من قوتها وقوته لتشتري له بندقية‏..‏ ليثبت لها ولأهل القرية كلهم أنه قد أصبح رجلا‏.‏

ومسرح الثأر في القرية ليس له ستار مادام هناك همسات مجنونة لأم في أذن ولدها‏(‏ التار ولا العار ياولدي‏).‏

اسرة قناوي أبوالعلا‏.‏
منذ‏3‏ سنوات كان رب الأسرة قناوي شابا قويا يعيش أيامه في سعادة مع زوجته أم السعد وأطفاله الثلاثة الصغار هنية ومحمد ومسعد‏..‏ وفدان ونصف فدان هي كل مورد رزقه‏..‏

وفي إحدي الليالي كان يسهر مع أصحابه علي القهوة‏..‏ وكانت الضحكات تملأ أفواههم‏..‏ وقال قناوي مداعبا هريدي‏:‏ أنت يا ولد صاحي ليه لحد دلوجت‏..‏ والفراخ نامت من الصبح وضحك الصحاب‏..‏ وكتمها هريدي في نفسه‏.‏

وفي نفس الليلة دوت‏3‏ رصاصات في الظلام استقرت كلها في قلب قناوي وهو يطرق باب منزله بعد عودته‏..‏ ودخل هريدي السجن ليقضي هناك‏25‏ عاما كاملة‏..‏ وبقيت عائلة قناوي‏:‏ الأم وثلاثة أطفال لا يتجاوز عمر أكبرهم‏4‏ سنوات‏.‏

وخلعت الأم حجابها ونزلت إلي الحقل تحرث وتزرع وتروي وتقلع‏..‏ وفجأة مرض طفلاها محمد وهنية بالتيفود‏..‏ وباعت الأم فدانا لتمنع شبح الموت عن طفليها الصغيرين‏..‏ وبقي للأم طفلاها ونصف فدان من الأرض‏.‏

واضطرت الأم في النهاية إلي أن تلحق بموكب الباحثات عن الرزق الذي يخرج كل صباح إلي أسيوط لتبيع اللبن هناك‏.‏

‏14‏ رجلا في مملكة النساء‏!!‏
صورة غريبة‏..‏ تلك التي يعيشها‏14‏ رجلا هم كل ما بقي في القرية من رجال وسط هذا العدد الهائل من النساء والأطفال‏.‏

كيف تمضي بهم الحياة داخل هذا المجتمع الغريب‏..‏ مجتمع النساء؟
إن القرية لا تصحو قبل الثامنة صباحا‏,‏ وبعد أن تملأ الشمس كل شيء في القرية بنورها‏..‏ وأي رجل في القرية لا يجرؤ أن يخرج من عتبة منزله قبل الشمس‏..‏ خوفا من أن تمتد ماسورة بندقية إلي صدره في الظلام‏,‏ وتنتهي حياته برصاصات الثأر الغادرة‏..‏

وجامع القرية يدخله الناس‏3‏ مرات فقط كل يوم‏..‏ فرجال القرية لا يصلون الفجر‏..‏ ولا ينتظرون خارج منازلهم بعد غروب الشمس ليؤدوا صلاة العشاء‏,‏ ففي عنق كل واحد منهم دين دم للعائلة الأخري‏..‏ وفي الظلام يحدث كل شيء وأي شيء‏.‏

حتي شوارع القرية نفسها مقسمة بين العائلتين المحمدية والزعارنة‏..‏ ولا يجرؤ أحد من المحمدية مثلا أن يدخل الشارع الذي تسكنه الزعارنة‏..‏ وإلا قتل في الحال‏.‏

وفي القرية توجد اثنتان من المقاهي الريفية‏..‏ واحدة يجلس عليها أفراد عائلة المحمدية والثانية يسهر فيها أبناء الزعارتة‏..‏ وكل مقهي لا يدخله سوي أفراد العائلة فقط‏..‏ أما إذا فكر واحد من أفراد العائلة الأخري في دخول هذه المقهي فبندقية الثأر في انتظاره‏!‏

****‏

الساعة جاوزت الثالثة بعد الظهر‏..‏ الجو خانق‏..‏ وكل شيء في القرية تصهره شمس الصعيد‏..‏ والطريق إلي السكة الزراعية يطول‏..‏ والقرية اليتيمة التي مرت عليها أيام العيد بلا ابتسامة تختفي في أحضان الجبل‏..‏

حتي النخيل وقفت بطولها الممل‏..‏ وفي سكون كأنها تعيش المأساة كلها دقيقة دقيقة‏..‏ وترتوي منها قطرة‏..‏ قطرة‏.‏

وأرغول صغير‏..‏ في فم مغنواتي صغير‏..‏
وموال علي الشفاه‏..‏

موال عن الثأر‏..‏
الدم الغالي‏..‏ يابوي

أشيله في قلبي سنة واثنين‏..‏
ما يكفيني جصاده اثنين‏.‏

...................‏
‏..................‏

هذه صورة طبق الأصل مما كتبته قبل أكثر من أربعة عقود عن رحلة إلي قرية بلا رجال في قلب صعيد مصر‏.‏

الفارق بين الأمس واليوم‏..‏ ان نساء قرية منشية المعصرة لم يكن يعانين التهاب الأسعار وجشع التجار وتفشي الفساد والمحسوبية في كل موقع ودار وغياب الضمير وضعف النفوس والرشوة المقنعة في صورة الإكراميات وحق الشاي وكلك نظر ياسعادة البيه‏....‏ كما تعاني نساء هذه الأيام وكما نعاني نحن‏.‏

ولم يكن هناك أغان خليعة ولا كليبات عارية ولا فن داعر ولا دعوات صريحة إلي فساد وافساد للأولاد والبنات‏.‏

ولم يكن هناك إدمان ينهش صدور‏17%‏ من عمر شبابنا‏..,‏

ولم يكن هناك تليفزيون وقنوات فضائية تحض علي الرذيلة‏..‏ تحت ستار الفضيلة‏!‏

الذي كان موجودا هو الفقر كما هو الآن‏+‏ الشرف‏+‏ الأمان‏+‏ الضمير‏+‏ الإحساس بالمرأة كأخت وكزوجة وكرفيقة طريق‏..‏ وكأم رؤوم‏+‏ طاعة الرجل‏+‏ احترام الصغار للكبار‏!+‏ الخوف من الله‏.‏

ما رأيكم دام فضلكم‏..‏
الأمس أم اليوم؟
بلد بلا نساء‏..‏ أم بلد بلا رجال؟

ما كتبته قبل أربعين عاما؟
أم ما أكتبه اليوم؟
في رأيي أنا ـ اذا اردتم رأيي ـ‏..‏ لم يتغير شيء‏..‏ ولم يزد الامس عن اليوم الا اصبعا‏.



الأهرام[/size][/color]


حسين الحمداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس