قريه بلا رجال
زيارة إلي قرية [COLOR="RoyalBlue"][SIZE="3"]بلا رجال!
عـزت السـعدني - مصر
ذا كنا نجدف في بحر بلا نساء تعالوا نرسوا بزورقنا هذه المرة علي شاطئ قرية بلا رجال.. قرية كل أهلها وناسها وسكانها من جنس الحريم فقط... خرج منها الرجال إلي غير رجعة.. وضاع منها الموال والأفراح والليالي الملاح..
صدقوني لقد عثرت لكم في مكان قصي من بر مصر.. علي قرية تسكنها المرأة وحدها.. ولا مكان فيها لجنس الرجال.. بطيشهم ورزالتهم وغرورهم وجهلهم وحمقهم الأزلي وتسلطهم الأعمي.. واعتقادهم وهم واهمون أن الدنيا بحالها لن تخطو خطوة واحدة إلي الأمام.. ولن ينصلح حالها إلا بمشورتهم وبدماغهم وبعصاتهم..
لقد عثرت لكم علي قرية بلا رجال.. زرتها وجلست إلي أهلها من قبيلة النساء.. قد يسأل خبيث أو خبيثة لا فرق: أين هذه القرية علي خريطة مصر كلها؟ ومتي زرتها أيها الفتي الضرغام وفي أي عصر.. وفي أي أوان؟ هل في عصرنا هذا.. أم في الأحلام؟
وإذا كنا قد انتهينا في حديثنا الطويل معا.. إلي أن الحياة لا تستقيم ولا تصح ولا تصلح في عالم بلا نساء.. فماذا يكون الحال لو تغير المنوال وأصبحنا نعيش في عالم بلا رجال.. تكثر فيه نون النسوة.. ويخرج منه جمع المذكر سالم؟
وقد تسألون بخبث أو بمكر لا فرق: هل وجدت النساء السعادة بعيدا عن الرجال؟
وهل تستقيم الحياة وينصلح الحال للمرأة دون رفقة الرجل.. دون صحبة الرجل.. زوجا وأبا وصبيا وزميلا ورفيق درب وطريق.. طيبا كان أم خبيثا؟
أم أن الرجل زهق وغلب غلبه وطهق من عيشته وطلع من هدومه ـ كما يقول أهل البلد ـ في صحبة المرأة.. بنكدها وزنها وقرها وقائمة طلباتها التي لا تنتهي.. وبتسلطها وكفرانها بالعشرة والمعشر ونكرانها للجميل وكفرانها بالعشيرـ في كثير منهن ـ كما قال الرسول الكريم ـ فحمل متاعه وترك الدار والديار.. والجمل بما حمل.. وخرج إلي بلاد الله خلق الله؟
وجوابي: لا هذا.. ولا ذاك..
ولكن قرية النساء التي عثرت عليها في صعيد مصر.. ضاع منها الرجال لا هربا.. ولكن موتا برصاص بندقية قديمة قدم الدهر.. اسمها بندقية الثأر!
ولنبدأ الحكاية والرواية من أول السطر..
................
...............
وإذا كان مؤرخنا العربي الكبير ابن خلدون صاحب كتاب مقدمة ابن خلدون في الفلسفة.. قد زار قرية بلا نساء يعيش فيها الرجال وحدهم قبل نحو ستة قرون.. اسمها شامرهان, وهي بلد فارسي هربت منها النساء خوفا من بطش وظلم سلطان جائر عنده عقدة من جنس المرأة بعد أن خانته في صباه من أحب وأخلص..
فقد عثرت لكم بعده بستمائة عام علي قرية للنساء فقط.. ليس اليوم.. ولكن قبل أكثر من أربعين عاما في مستهل حياتي الصحفية.. والقرية اسمها منشية المعصرة ترقد في حضن الجبل الشرقي المطل علي أسيوط..
كانت البداية مكالمة تليفونية من أبوالمجتمع المصري قلة المعروف باسم د. سيد عويس, وكان رئيسا للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية.. وكنت أيامها في سنة أولي صحافة في الأهرام.. وكان عمري أيامها لم يتجاوز الثالثة والعشرين بعد..
قال لي الدكتور سيد عويس: يا عزت يابني عندي لك خبر مذهل!
قلت: خيرا يا أستاذنا..
قال: لقد عثرت لك علي قرية بلا رجال.. قتل الثأر كل رجالها.. فيما عدا أربعة عشر رجلا.. العمدة وعامل التليفون وشيخ الخفراء واثنين من الخفراء وثلاثة شيوخ تعدوا الستين وستة مزارعين يؤجرون عافيتهم في الحقول!
أسأله: وعدد النساء؟
قال:356 امرأة!
قلت: يعني14 رجلا وسط356 امرأة. يا داهية دقي؟
................
...............
وشددت الرحال إلي أسيوط.. منحني صلاح هلال رئيس قسم التحقيقات أيامها عشرة جنيهات دفعة واحدة من خزينة الأهرام مصاريف مهمة صحفية.. وهو رقم يساوي هذه الأيام ألف جنيه بالتمام والكمال.. وعلي كتفي كاميرا رولكس القديمة العظيمة.. مع دعوات الزميلين العزيزين: محمد زايد+ عبدالوهاب مطاوع بالتوفيق والفلاح..
ولكن الذي حدث لي ومعي عندما ذهبت إلي قرية صعيدية قبل نحو أربعين سنة ويزيد.. كل أهلها من النساء.. عندما كتبته رفضوا أن ينشروه في الأهرام.. وقال لي الأستاذ نجيب كنعان مدير التحرير أيامها من وراء نظارته الطبية: هو انت يا بني فاكر نفسك إيه.. محمد التابعي واللا إحسان عبدالقدوس.. اكتب زي زمايلك.. علي قدك.. انت لسه صغير.. تاتة تاتة!
وقال لي أستاذنا صلاح هلال بعطف الاستاذ: انسي نفسك.. واكتب تحقيقا صحفيا, وليس قصة سينمائية تقوم فيها أنت بدور البطل!
وكان هذا أول درس لي في التحقيق الصحفي..
ولكن اسمحوا لي.. لكي تكونوا منصفين أن أحكي لأول مرة بعد مايزيد علي أربعين عاما ما حدث لي في قرية صعيدية من الجذور.. في أول مشوار حياتي الصحفية في الأهرام عندما حبستني نساء القرية في غرفة التليفون.. وهو ما رفضوا ان ينشروه.. وبعدها أقدم لكم نص التحقيق الصحفي الذي نشره الأهرام تحت عنوان:14 رجلا فقط و356 امرأة وحياة عجيبة في قرية الثأر!
................
...............
نزلت محطة أسيوط بعد خمس ساعات سفر بالديزل درجة ثانية.. كان في انتظاري علي المحطة زميل قديم عزيز علي نفسي هو موسي بولس مندوب الأهرام في صعيد مصر.
كانت الساعة قد تجاوزت السابعة مساء.. كنا في عز الصيف.. الحر قائظ.. وهو يزيد ويرتفع كلما اتجهنا جنوبا.
بالأحضان استقبلني موسي.. وراح يحدثني ونحن نأخذ طريقنا إلي خارج كردون المحطة بصوت عال كعادته: أنا حجزت لك في أحسن لوكاندة عندنا.. لوكاندة الحاج دعبس.. جنبنا هنا.. خمس دقائق بالحنطور!
قلت له: مداعبا: ياسلام الحاج دعبس!
قال لي: انت تعرفه؟
قلت له: لا!
لم أنم ليلتها من صوت طرقعة القباقيب في أرجل الزبائن وهم رائحون غادون من الحمام وإليه.. علي طول الممر الطويل بين الغرف التي بلا حمامات!
ولكن في الصباح الباكر.. جاءني موسي ومعه سيارة أرياف أجرة من أيام أبونا آدم.. لو رآها الخواجة فورد لأمسك بها بيديه وأسنانه وشحنها في أول سفينة إلي نيويورك ليضعها في متحف السيارات هناك!
ركبنا وسرنا في طريق ترابي.. وتعفرنا ترابا وعرقا حتي وصلنا إلي حضن الجبل الشرقي.
قال لنا سائق السيارة الأجرة الأنتيكة: هذه هي منشية المعصرة.. خطوتين مشي.. لحد هنا وبس أنا راجع أسيوط.. دول يقتلونا لو قربنا من البلد دي..
سألته: ليه يا عم الحاج؟
قال: دي كلها نسوان في نسوان.. ماحدش من الرجال يقدر يقرب من البلد دي!
سألته: ليه يا عم بس؟
قال: أصل عليها دم.. واللي يقرب يطخوه بالنار علي طول!
أدار الرجل سيارته استعدادا للهرب من هذا الكمين الصعيدي الحريمي.
نظر لي موسي بولس وهو صعيدي أبا عن سابع جد وقال لي: ماليش دعوة يابا.. إنت من سكة وأنا من سكة.. إذا كنت ياخوي عاوز تدخل البلد دي روح إنت لوحدك.. أما أنا حأفضل هنا مستنيك تحت الشجرة دي!
ولأنني لم أتجاوز أيامها الثالثة والعشرين.. فتي قاهري يافع قادم من العاصمة.. في صدره قبس من عنفوان الشباب وشجاعته.. فقد تقدمت مشيا بخطي سريعة إلي داخل طرقات القرية.. سألت غلاما صغيرا: فين يا بني دوار العمدة؟
قال: دوار العمدة جدامك علي طول.
مشيت خطوات أخري.. كأنني عنتر زمانه وما كدت أفعل.. حتي خرج من حقول الفول الأخضر جمع من النساء يلبسن السداد.. كانهن عفاريت الليل صحن بي في البداية: راجل يا عيب الشوم..
تجمعن حولي وصرخن بصوت عال.. اهتزت له الإبل في الصحاري.. ورحن يدفعنني مع الصرخات إلي داخل بيت ريفي أغبر اللون.. عرفت أنه بيت العمدة من صيحاتهن.
نظرت بطرف عيني أبحث عن موسي بولس.. فوجدته قد أطلق ساقيه للريح.. وكأنه فتوة العطوف في قصة نجيب محفوظ في ليلة زفافه هربا من كمين الفتوات..
وأصبحت وحيدا تحت رحمة نساء قرية بلا رجال.. أسيرا في بيت العمدة..
أدخلوني زقا ورفسا ودفعا بالكيعان والأرجل والأيدي إلي غرفة ضيقة عرفت أنها غرفة تليفون العمدة.. من التليفون العتيق المعلق علي الحائط.. لعله هو نفسه الذي اخترعه الخواجة بل..
أغلقن الباب علي.. ورحن يتصايحن ويصوتن من حولي.. وكأنني قد وقعت بين أيدي جماعة من آكلة لحوم البشر البيض أمثالي القادمين من القاهرة..
ولكنني لم أخف..
ولكن الذي أقلقني.. ولا أحد يعرف بالضبط الخطوة الثانية لأي امرأة.. إن الصمت قد ران وأصبح سيد الموقف.. داخل دوار العمدة.
لماذا توقفن عن الصياح؟
ماذا يخبئن لي في جعبتهن.. أولئك النسوة اللاتي يرتدين السواد من أعلي رؤوسهن حتي أخمص أقدامهن؟
فجأة سألتني واحدة منهم من وراء الباب: أنت يا سيدنا الأفندي جاي حدانا ليه؟
قلت لها: والله ذنبكم علي جنبكم.. أنا جاي عشان أشوف أحوالكم وأكتب عنكم في الجرنان بتاعي.. عشان الدولة تصرف لكل واحدة منكم معاش كويس تعيش منه وتربي عيالها!
قالت واحدة عاقلة: أي والنبي صحيح.. ماتفتحوا يانسوان الباب للجدع.. عشان نعرف منه كل حاجة.. يعني هو حياكل منكم حتة.. واللا حياكل منكم حتة!
انفتح الباب.. وقمت أتمطع من جلسة القرفصاء التي كنت أجلسها محشورا في غرفة متر* متر ونصف.. وأنا أقول: انا زي ابنكم وأنتم زي اخواتي تماما.. وأدي إيدك يا ست الحاجة أبوسها زي ما كنت أبوس إيد أمي كل يوم الصبح..
انحنيت علي يد أكبرهن لكي أقبلها.. ولكنها سحبتها مني وهي تقول: أستغفر الله يابني!
أجلسوني علي كنبة عربي ذات مساند وحشيات قطنية وجلسن أمامي في دائرة تتسع لأكثر من خمسين امرأة وفتاة في مندرة العمدة.. بعد أن انزاح ساتر الخوف من هذا الزائر المصراوي الأشقر اللون.. وبدلا من أسألهن أنا.. رحن يسألنني:
* إنت إسمك إيه؟
* بتشتغل إيه؟
* متزوج؟
* وليه مستني إيه لحد دلوقتي؟
* الستات عندكم في مصر بيلبسوا فساتين قصيرة وكعب عالي؟
* ليه الراجل المصراوي بيسمع علي طول كلام الست؟
* عمرنا ما رحنا السيما.. إحنا بنسمع راديو بس!
* مابقاش عندنا رجالة واللا شباب.. كلهم ماتوا أو اتسجنوا!
* البنات عندنا موش لاقية عرسان.
* الست إللي جوزها يموت بالنار.. ممنوع عليها الجواز..
أسألهن: ليه؟
قلن: ياعيب الشوم.. تتجوز إزاي وجوزها ماحدش خد بتاره..
أسألهن: يعني تقعد طول عمرها أرملة؟
قلن: أيوه.. تربي ولادها.. إلا إذا تقدم لها أخو جوزها إللي مات قتيل!
* إنت بتشوف أم كلثوم وعبدالحليم حافظ شكله إيه.. حلو زي حضرتك كده!
* مامعاكشي قزازة ريحة من بتوع مصر..
* إحنا إللي بنزرع الأرض دلوقتي بعد ما ماتت أجوازنا وأولادنا.. واللي ماتوا أكثر من إللي دخلوا السجن بسبب الثأر..
* سألتهن: ليه بس الثأر.. ما المحاكم بتحكم علي الجاني!
قالت أم عجوز: ما يكفيش يابني.. الثأر ولا العار يا ولدي!
* سألتني الأم العجوز: غيرت ريقك يا حبة عيني؟
قلت: وقد اسعدتني كثير كلمة حبة عيني: علي لحم بطني من طلعة الشمس!
صاحت علي أهل الدار: الصينية ياولاد.. عيب الجدع في دارنا وما داقشي الزاد.. ياعيب الشوم!
يتبع
|