عرض مشاركة واحدة
قديم 02-03-06, 11:29 PM   #1

تقى
هيئة دبلوماسية

رقم العضوية : 3709
تاريخ التسجيل : Dec 2005
عدد المشاركات : 6,063
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ تقى
لوركا عندليب اسبانيا..........ورصاصات الغدر




ولد فيدريكو غارسيا لوركا في الخامس من حزيران 1898 لوالدين إسبانيين في منطقة فيونيت فاغودس في غرناطة، كان والده مزارعاً ثرياً، وأمه معلمة، أخذت على عاتقها تعليمه النطق والكلام، لأنه وجد فيهما صعوبة في أول حياته، كما أنه لم يستطع المشي حتى الرابعة من عمره بسبب مرض خطير أصابه عقب الولادة، وكان من عدم استطاعته مشاركة الصغار ألعابهم أن نمت قواه التخيلية وأحاسيسه، فراح يعبر عن نفسه بصنع عالم خاص به من المسرح ومسرح العرائس والاستعراضات،


وفي الوقت الذي لا بد فيه من إلحاق فيدريكو بالمدرسة انتقلت الأسرة إلى غرناطة، وهناك تلقى ما يتلقاه أترابه الذين في مستواه الاجتماعي من الثقافة العادية حتى بلغ سن الجامعة، فبدأ دراسته الجامعية في جامعة غرناطة دون أن يتمها. ثم التحق فيما بعد بجامعة مدريد ولكنه لم ينجز دراسته فيها أيضاً، إذ لم يكن ميالاً إلى الدراسات الأكاديمية أبداً. وكانت اهتماماته متجهة دائماً إلى خارج مدرجات الجامعة، وقد وجد نفسه أسعد حالاً في المقاهي وأحاديث الأصدقاء والتجوال في ريف غرناطة أو بساتينها القريبة وفي الكشف عن العديد من الثقافات والتقاليد التي كونت إقليم الأندلس العريق، وفي التعرف على الغجر الذين قدر لهم أن يكونوا الموضوع الهام الذي يستوحي منه أعظم أعماله. أثناء إقامة لوركا في غرناطة طبع أول كتاب نثري له (انطباعات ومناظر) عام 1918 وهو حصيلة عديد من الرحلات في إسبانيا.

طبع أول ديوان شعر له (كتاب الأشعار) عام 1921


وفي عام 1920 عُرض فصل من مسرحية له (رقية الفراشة المشؤومة) في مدريد، وأما أولى مغامراته المسرحية الناجحة فكانت المسرحية النثرية التاريخية (ماريانا بنيدا) التي قدمت في مدريد عام 1927، وشهد العام التالي ظهور أكثر دواوين لوركا شعبية (حكايا غجرية) الذي لاقى نجاحاً مباشراً في أسبانيا وفي جميع البلاد الناطقة بالإسبانية، إذ إنه لم يكن يكتب كغالبية شعراء عصره للخاصة، بل كان يقول: (أريد للصور التي أستمدها من شخصياتي أن تفهمها تلك الشخصيات نفسها)، فقد فُطر على الرغبة في أن يفهمه كل إنسان ويحبه كل إنسان من خلال شعره، وهذا ما حققه بلا ريب، فحتى الذين ليس لهم ميول أدبية يفهمونه وإن لم يفهموا تمام الفهم، فهم على الأقل يحسّون ما يقوله الشاعر.

وبعد ذلك سنحت لـ فيدريكو فرصة الارتحال إلى الولايات المتحدة، فوصل إلى نيويورك عام 1929، وأصيب بخيبة أمل من الحضارة الأمريكية المختلفة تماماً عن الحضارة الإسبانية،


لدى وصوله إلى نيويورك لم يدهش لوركا بشيء.. كان يتوقع كل شيء فيها: أجواء الضخامة والحرية والحدود الواسعة. فوجئ فقط بحجم الشهرة التي كانت قد سبقته إلى الأمريكيين بسبب كتابه (الغجري الحالم).. فبراعمه كانت في بداية تفتحها في إسبانيا.. لكن جذوره كانت متأصلة في أمريكا.. غير أن زنوج أمريكا في حي هارلم النيويوركي كانوا المفاجأة الحقيقية للوركا، وهذا ما نراه جلياً في ديوانه (أشعار في نيويورك). يقول بعض النقاد إن لوركا سافر إلى نيويورك خصيصاً لكي يكتب أشياء ذات أبعاد عالمية شاملة. وفي نظري أن هذا غير بعيد عن الحقيقة. في أمريكا أصيب لوركا بنفس الخيبة التي ما يزال يصاب بها الآن الإنسان المعاصر.. فأمريكا هي دائما نفسها: من الخارج، ومن بعيد، تجذب القلوب وتخلب العقول، ولكن من الداخل، وبمجرد أن يصبح الإنسان على تماس مباشر مع الحياة الأمريكية، فهو سرعان ما يبدأ يكتشف العفن الذي يتآكلها. أمريكا تفاحة براقة شهية.. لكن في داخلها يعشِّش الدود.. هذا ما عبر عنه لوركا في كتابات ما بعد أمريكا وخاصة في كوبا التي انتقل إليها هربا من مدينة الأسمنت والغثيان (نيويورك). يقول لوركا في إحدى رسائله (كوبا، غرناطة ما وراء البحار).. كم كان ضوءها ضرورياً بعد عتمة نيويورك. في كوبا كتب لوركا أهم أعماله الأدبية، أقصد مسرحية (الجمهور) (إيل بوبليكو).. وهناك ظهر التمزق الداخلي المرعب الذي كان يعيه لوركا بأجلى مظاهره، كان لوركا شخصاً مليئاً بالعقد النفسية، وكان الشعور بالنقص أهم عقده.. وكان يحاول تعويض ذلك بهوس لا حدود له بالشهرة، ولكن في نفس الوقت كان يخاف من أضواء الشهرة لأنها لابد أن تكشف كل أسرار حياته الشخصية التي كانت حافلة بالموبقات والانحرافات.


.

لوركا لم يكن شاعراً فقط.. بل كان متعدد المواهب والأنشطة الثقافية والإبداعية. في البداية كان موسيقياً، وفي سن الثامنة عشرة كان من أشهر عازفي البيانو في غرناطة.. لكن بعد وفاة أستاذه رفض أهله السماح له بالسفر إلى باريس لمتابعة تخصصه في الموسيقا، فانصاع وبقي في غرناطة يعزف ويؤلف.. لكنه بدأ أيضاً يتجه نحو الرسم والشعر والتأليف المسرحي.. وقبيل وفاته أي قبل اندلاع الحرب الأهلية، كان لديه مشروع أوبرا ضخمة مع سلفادور دالي.. ولكن أهله كانوا وراء إحباط مشروع هذه الأوبرا لأنهم منعوه من السفر إلى برشلونة للعمل مع دالي.


عندما سئُل لوركا : (وانت يا لوركا.. إلي أي حزبٍ تنتمي)؟ قال : (أنا أنتمي إلي الفقراء!) لم يكن منتمياً إلي أي حزب.. ولم يكن سياسياً بالمعني المعروف عن السياسة..وقد قُتل (ضمن الدوامة السياسية)




لا أعرف شاعراً كتب عن القتل، عن الدم عن الموت مثلما كتب لوركا بتلك الروح المسكونة بظلال الموت، في شعره، وفي مسرحه الشعري أيضاً يتدفق الدم ويتجول الموت في الشوارع والحقول آخذاً هيأة الحرس الأسباني الأسود..فهل كان لوركا يتخيل في اللاشعور، في الرعشات الكامنة عميقاً، الطريقة التي ستنتهي بها حياته؟أم هي (الأعراس الإسبانية الدامية) ورائحة الموت المختلطة بعبير الشجر الليلي؟المعروف عنه انه كان رائق المزاج..كان ممتلئاً بألوان الحدائق وروائحها مفتوناً بفرحة الحياة، لم يذكر شاعرٌ الياسمين أو الليمون أو الزيتون بالقدر الذي جري به قلم لوركا.. وكان القمر، في شعره موتاً أبيض، فإذا كتب عن المرأة المحبوبة جاءت المرأة مسربلةً بالضوء القمري.. أو هي شجرة مقمرة تتمايل بين الشجر فهي الأخري مرتجفة برياح الموت في عزّ رقصتها وانتشائها، هي أشبه بمنديل ورقي أبيض ستطير به الريح بين لحظة وأخري هنا تنفتح الجمالية عن كنوزها ساعة موتها تقريبا






لقي لوركا مصرعه في 20 أغسطس عام 1936م في ملابسات غامضة، واتُخِذ مقتله أيامها سلاحًا سياسيًا وشعارًا رفعه خصوم نظام الجنرال فرانكو في الشرق والغرب على السواء، وألقيت التهمة على النظام؛ ولم يكن له أي مصلحة في قتله، ثم اتهم حزب "الكتائب" الفلانخ أيضا بتدبير الجريمة؛ رغم أنه كان يقوم بحمايته لعلاقة شخصية تربطه بأسرة معروفة تنتمي إلى الحزب.
ونتيجة لهذا الخلط نُسِبت إلى لوركا نزعات شيوعية ويسارية هو بريء منها، فليس في إنتاجه ما يدل على ذلك، بل كان ينفر من السياسة ويكره الزج باسمه في الصراعات السياسية، وقد وصل إلى هذه الحقيقة بالفعل الباحث والمؤرخ الأسباني "خوسين بلاسان" في كتابه "موت لوركا.. كل الحقيقة" بعد بحث وتحقيق استمرا نحو عامين، لكن انتشار هذا التزوير التاريخي جاء في مرحلة المد الاشتراكي في الستينيات، وخاصة في دول العالم الثالث.
ورغم أن لوركا لم يكن "مناضلاً سياسيًا" فلا شك أنه "ثوريّ" بكل ما تعني الكلمة، لكن ثورته كانت "أدبية" "مسرحية" و"فنية" أيضًا، وكان الرجل عبقريًا ورومانتيكيا في أدبه، بالقدر نفسه الذي كان فيه عبقريًا في إبداع الطرق المختلفة للوصول بهذا الأدب والمسرح والفن بشكل عام إلى الفقراء، فاستحق لوركا من جمهوره لقب "الشهيد"… واستحق التدليل … واستحق أيضا أن يبنى له مقام.. ويزوره المحبون والأدباء والسياسيون أيضا
من بين اوراقة هذة القصيدة وكانه ينعي نفسه
(وعرفت أنني قتلت
وبحثوا عن جثتي في المقاهي والمدافن والكنائس
فتحوا البراميل والخزائن
سرقوا ثلاث جثثٍ
ونزعوا أسنانها الذهبية
ولكنهم لم يجدوني قط)

وقد كان أثناء حياته "الطفل المدلل" -كما أطلق عليه محمود على مكي في تقديمه لأعماله الكاملة بالعربية- في عالم الأدب الأسباني، وأصبح بعد مقتله هو الشهيد المدلل، والغريب أن الشاعر الرقيق لم يوجد في مرحلة نضب فيها عالم العبقرية الأدبية إلا منه، على العكس من ذلك تمامًا، فقد كان عصرًا ذهبيًا بالنسبة للشعراء. فقد عاصر بدروساليناس، وخروخى جيين، ورافايل ألبرتي وبيثنتي أليساندرو وغيرهم، وقد نال أليساندرو جائزة نوبل، وقد لمعوا جميعًا كشعراء أو أكاديميين، وامتدت بهم جمعيًا الحياة بعد مصرع لوركا الذي مات قبل الأربعين، لكن الجميع يعترفون بما فيهم هؤلاء أنفسهم أن لوركا سبقهم جميعاً!!
لوركا.. ذلك الشاعر الذي كان مصرعه مأساويًا لحد العبقرية، وعظيمًا لحد تخليده..


هذا مثال اخر ليد الغدر


التعديل الأخير تم بواسطة تقى ; 02-03-06 الساعة 11:37 PM
تقى غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس