عرض مشاركة واحدة
قديم 27-11-03, 12:20 AM   #6
 
الصورة الرمزية ابويافا

ابويافا
سفيـر الشـرق

رقم العضوية : 47
تاريخ التسجيل : Jun 2002
عدد المشاركات : 1,031
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ ابويافا

"الـتـنـاصّ والإبـداعـيـة" فـي "جـاد" لأنـطـوان مـعـلـوف

الميثوس يجسّد "الفعل" فتعيد المأساة خلق الواقع



حين أقبل أنطوان معلوف على كتابة "جاد" كانت تتفاعل في وعيه أحداث الشرق الأوسط عموماً، وحادثة ضرب مطار بيروت واحراق الطائرات على مدارجه خصوصاً، لذا صمم على ان تأتي مسرحيته مأساة، تصدر عن رؤية ووعي مأسويين.

وبما ان المأساة توجب وجود ميثوس يجسّد "الفعل"، استوحى معلوف "بانثي" من الميثولوجيا اليونانية، وقد وجد فيه البطل الذي فتّش عنه لخلق ميثوس جديد، لبنانيّ السمات والتطلعات، يمثّل ما شعر به المواطن الواعي من مذلّة، ثم من أملٍ في أن ينهض طائر الفينيق من رماده نقياً نشطاً.

هكذا تخطّى النصّ المسرحي الواقع واعاد خلقه في رؤية مستقبلية جديدة.

وهذا تحديداً ما شدّني الى مأساة "جاد" لانطوان معلوف، عندما حضرتها في مسرح مارون النقاش في أواخر الثمانينات.

لقد صوّر الكاتب بيروت وهي تلهو وتعبث، تستقبل لود، الرجل الدجّال الذي يدّعي التنّبؤ والقيام بالأعمال الخارقة، وتحتفل به. لقد سحرها هذا الغريب الآتي وحريمه من بلاد الشركس. فبعدما قطع الجبال والسهول والصحارى، شعر لود بحسّ العاشق ان بيروت تنتظره، فوافاها، حاملاً اليها حشيش الكيف والطرب، لكي يكتسب ودّها وتشاركَه العيد. وبالفعل، كرّمته المدينة وفتحت له الأميرة أبواب الحريم، ووعده المير، والد جاد، بتسليمه ديوان الامارة.

ولكن، في هذه الاثناء، يحتل سلطان الغرب وصور وصيدا، وهو يستعد للزحف على بيروت.

وبيروت، تحتفل اليوم بلود،

تملأ جوفها بالحشيش،

تمد اقدامها للموج،

وتنام...

بيروت تنام وجاد يسهر، لأن وعيه المأسوي يدفعه الى رفض هذه الحالة من الذل والتخاذل. انه لا يؤمن بالحلول الاستسلامية التي تجعل من الانسان شاهد زور لتاريخ بلاده، لذا دعا الشعب الى طرد لود من المدينة، ومواجهة الخطر الآتي من الجنوب مؤكداً ان في استطاعتهم متّحدين، أن يعيدوا الى بيروت كرامتها وسابق مجدها.

وللأسف، ينتصر الوحش، ويُقتل البطل على يد أمه، تنتهي المأساة هنا، ومن رحمها، يولد الميثوس اللبناني مبشّراً بحياة جديدة.

كتب انطوان معلوف مأساة "جاد" عام 1968 ونالت هذه المسرحية جائزة المنظمة العالمية للمسرح التابعة لمنظمة الأونيسكو لأفضل مسرحية عربية، ونقلتها المنظمة العالمية الى اللغتين: الفرنسية والانكليزية.

لاقت مسرحية "جاد" نجاحاً كبيراً، ومع ذلك لم تُدرس حتى الآن، لذا اخترتها موضوعاً لدراستي(*).

لم يكن ذلك السبب الوحيد لاختيارها، إذ ثمة اسباب موضوعية دفعتني الى اعتمادها منها:

- أولاً: أهميتها في نطاق الكتابة المسرحية، لأنها الدليل الثالث، بعد "شهرزاد" لتوفيق الحكيم و"قدموس" لسعيد عقل، على ان الوعي المأسوي مشاع انساني، وعلى ان فن المأساة أمر ممكن خلقه على يد كاتب شرقي باللغة العربية، وهذا يدحض رأي الباحث الانكليزي جورج شتينر George Steiner في كتابه "موت المأساة" La mort de la tragہdie حيث قال: "يعرف الجميع ما هي المأساة في الحياة. ولكن المأساة بشكلها الدرامي، ليست مشاعاً عالمياً، فالفن الشرقي يعرف العنف، والعذاب، ولكن تصوير الألم الشخصي والبطولة في ما نسميه المسرح المأسوي، انما هو من خصائص التراث الغربي"(*).

- ثانياً: جمعها الأدبية والإبلاغية محققة الوظيفتين الجمالية والنزعة الوطنية.

- ثالثاً: ضرورة تواصل الأدب العربي مع الأدب الاغريقي المأسوي فقد يعين ذلك على مجابهة القدر عوضاً عن الاستسلام له. فالانقطاع دفع بعض الغربيين، وفي طليعتهم نيتشه، الى اتهام الانسان الشرقي بأنه غريب عن الوعي المأسوي، وبأنه غير قادر على كتابة التراجيديا او المأساة.

وموضوع مأساة "جاد" (التناص والابداعية)، يفرض استخدام الدراسات المقارنة في مرحلة اولى، او ما يعرف اليوم بالتناص Intertextualitہ، الذي، استناداً الى جيرار جونيت Gہrard Genette "يحدث عندما ينقل النص الادبي نصاً آخر او يحاكيه او يُعيد كتابته"، مهما تكن لغته.

ومصطلح التناص يعود الى جوليا كريستيفا Julia Kristہva التي رأت أن النص الادبي "انتاجية تستند الى التناص، مما يعني أنه ليس بنية مغلقة، إنما هو يُنتج بالقوة virtuellement قواعد كتابته الخاصة، وتنتمي العملية التناصية - المنفتحة الى اللغات الانعكاسية (العلاقة مع النص).

إن تحديد أطر عمل التناص ضمن النصوص فقط، وضع حداً للتداخل الحاصل بين "هذا المفهوم وعدة مفاهيم اخرى مثل الأدب المقارن والمثاقفة ودراسة المصادر والسرقات".

وكذلك قضت الدراسة اعتماد المنهج السيميائي البنيوي الذي يفترض في المرحلة الاولى تقطيع النص، ثم الانصراف الى التحليل العاملي actanciel والممثلي actoriel في مرحلة ثانية. كل ذلك قبل الكشف عن حركة الدلالة والرؤية في مسرحية "جاد"، بكون المنهج السيميائي البنيوي يقتضي الانتقال من الاكثر حسية الى الاكثر تجريدية، اي من البنية السطحية structure de surface الى البنية العميقة structure profonde.

وعليه، وبعد المدخل الذي يعرف المأساة والميثوس، تم تقسيم الدراسة الى فصول اربعة: يدرس الفصل الاول علاقة التناص بين نص "جاد" لانطوان معلوف ونص "الباخيات" لأوريبيدس; ويتناول الفصل الثاني بنائية العمل الدرامي، من حيث تقطيع المأساة الى فصول ومشاهد، ودراسة الوحدات الثلاث، وتدريج العمل الدرامي، ويدرج الفصل الثالث مقاربته بناء الشخصيات، من تعرف هويتها، الى التحليل العاملي، فالممثلي، ويكشف الفصل الرابع عن رؤية الكاتب الى الوطن والعالم، من خلال المنظار الايديولوجي في النص، كما يبحث في الابداعية التي تتجلّى على مستوى التعبير.

وفي نهاية المطاف، المأساة فن صعب، والعودة الى هذا الفن تطرح العودة الى الميثوس القديم او الى خلق ميثوس جديد يكون العمود الفقري للمأساة. واستجابة لهذه الحقيقة، استمد المؤلفون الغربيون في القرن العشرين موضوع مأساتهم عن الميثوس القديم، وأعادوا صوغه، فلم يأتِ عملهم هذا اقتباساً او ترجمة عن النصوص القديمة، لأنهم كتبوا المأساة كتابة "جديدة" وضمّنوها رؤية جديدة للانسان والحضارة والسياسة.

وينطبق هذا القول على مأساة "جاد" التي التقت مع "الباخيات" في النواحي الاساسية التي ترتكز عليها المأساة الكلاسيكية، وهي الميثوس والاطار التاريخي والوحدات الثلاث وتدريج العمل الدرامي، واختلفت عنها في النقاط التي جعلت من "جاد" مأساة معاصرة لها خاصياتها، ومنها العنوان وموضوع الصراع وتقطيع المأساة ودور الخورس.

1- وجوه الائتلاف:

- تلتقي مدينة بيروت في ستينات القرن العشرين مع ثيبا في القرن الخامس قبل الميلاد، من ناحية الموقع الجغرافي المنفتح على حضارات العالم، اضافة الى احتضانها الحضارة الفينيقية.

- ومن ناحية الميثوس، هناك الموضوع - الصراع الذي عالج الازمة التي نتجت من دخول غريب الى المدينة وسيطرته على الشعب، مما جعل الملك بانثي في "الباخيات"، والامير جاد في مأساة معلوف، يقفان بوجه هذه الهيمنة.

- ثمة تناص بين نص المعلوف والنص الاوريبيدي والنصوص الكلاسيكية الغربية، وذلك في التزام الوحدات الثلاث.

- إن العمل الدرامي القائم على الصراع بين بانثي وديونيزوس في "الباخيات"، وبين جاد ولود في مأساة "جاد"، يأخذ بالتصاعد وصولاً الى ذروته المتمثلة بالسيطرة على ثيبا وبيروت، ووقوع والدتي البطلين تحت سحر هذين الرجلين، ثم يبدأ هذا الخط بالانحدار الى نهايته. ويشبه تدرج العمل في صعوده وهبوطه الهرم الذي حمل اسم الناقد الالماني غوستاف فريتاغ Gustave Freytag (هرم فريتاغ).

2- وجوه الاختلاف:

- عنون أوريبيدس مأساته "الباخيات" لانه أراد التركيز على العقيدة الباخية، اي الديونيزية التي تدعو الى التفلت من كل اشكال القيود، والبحث عن الحياة الحقيقية في اللذة والنشوة. اما العنوان "جاد" فهو الميثوس الطالع من وعي فئة من الشعب تأبى الا أن تعيش بكرامة او تموت.

- لم يتبع معلوف التقليد الكلاسيكي في تقطيع المأساة الى فصول خمسة، فلقد اشار في العنوان انها مأساة في فصلين، وربما التزم بالجزءين الاساسيين اللذين تتكون منهما المأساة وهما: العقدة والحل.

- عبر خورس "الباخيات" المؤمن بألوهة "ديونيزوس" عن أسس هذه العبادة وهي: تمام النشوة، فرح العيد، لذة الحب... ولكن لم يكن له الدور المؤثر على مجرى الاحداث. اما خورس الشركسيات، فلقد قام بدوره بكل مراحله الصعبة، من حماسة وتأييد لـ"لود"، واستهزاء وتحد لـ"جاد"، وتحبب وإغراء للعسكر، كما أدى رقصاً يدفع الروح الى الحلول بـ"لود"، وهكذا فإنه جعل روح الاحتفال تواكب روح التخطي.

- في "الباخيات" صور وحشية تشمئز منها العين. اما في "جاد"، فحاول معلوف تلطيف مشاهد العنف، كما فعل الكلاسيكيون في فرنسا.

- الصراع في "الباخيات" ديني المنشأ، فحين عاد ديونيزوس الى ثيبا، وهمه الوحيد إرساء ديانته ونشر تقاليدها، تصدى له الملك بانثي. وكان الصراع بين العقل الأبوللوني والدولة والحضارة، من جهة، ودعوة ديونيزوس الى النشوة والسكر والتفلت من كل القيود، من جهة اخرى.

- اما في "جاد"، فالامر مختلف، فـ"لود" خصم الامير ليس إلهاً، بل هو رجل يدعي التنبؤ والقيام بالاعمال الخارقة، ويدعو أهل بيروت الى اعتناق اسلوب جديد في الحياة، بالإقبال على حشيشة الكيف والسكر والعربدة. ينتفض "جاد" ويخوض معركة ضد الروح الانهزامية المتمثلة بوالده وامثاله، وضد الفساد المستشري في مجتمعه، ليؤسس تالياً، للحق والحرية وكرامة الانسان.

- في المأساة الاغريقية، تكون الفاجعة نتيجة حتمية لتغلب القضاء والقدر على مصير الانسان المأسوي.

- وإن لمؤلف "جاد" رأياً آخر; اذ يعتقد ان بطل المأساة يصل دائماً الى غايته، ولكن بعد أن يدفع الثمن باهظاً. فللانسان دائماً ضلع في مصيره، ومسؤولية.

إن وجوه الاختلاف لا تعني الانفصال حتى التناقض او التضاد; انما هي تفرعات او تغيير في الاتجاه.

ولقد تجلت إبداعية معلوف على مستويين:

1- المنظور على المستوى الايديولوجي: لم تكن مأساة "جاد" أحادية الصوت، بل متعددته: - رفض الواقع المذل. - الدعوة الى الثورة والمقاومة. - بيروت، مدينة الحق. - تأثير الفكر الغربي. - انتصار القيم والمبادئ. - ميثوس الرجاء.

2- المنظور على المستوى التعبيري: ارتقى الى مستوى رفيع، استوجب دراسة أدبية للنص المسرحي; اذ تخلت "جاد"، شأن المأساة الحديثة، عن الوزن والقافية، لكنها حافظت على روحهما بالايقاع. وقد تم ذلك بفضل التقطيع المناسب للعبارات، والتكرار الصوتي الدلالي، والتوازي الذي هو من أهم الايقاعات الدلالية في المسرح.

كما ضمن المؤلف مأساته رموزاً وصوراً تعود الى الميثولوجيا الشرق اوسطية القديمة، والى الكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد، مما أضفى على المأساة رونقاً وجلالاً.

نعم، تأثر معلوف بالثقافة اليونانية، واستوحى منها موضوع مأساته، ولكنه ظل مجذراً في مشرقيته العربية. ونجح في بناء عمله المسرحي، وإن يكن قد استند الى جذور يونانية، الا أنه كشف، كذلك، عن إبداعيته، في خلق ميثوس جديد، يحمل أوجاعنا، ويعبر عن مبادئنا وقيمنا، من خلال رؤية الكاتب الى العالم والانسان.

وما أشد حاجتنا اليوم الى دراسة أدبائنا الاحياء، ننهل من معينهم قبل أن ينضب.

هدى بو فرحات



(*) ألقيت هذه الكلمة مدخلاً الى مناقشة رسالة ديبلوم دراسات عليا في الجامعة اللبنانية.




النهار"

السبت 15 تشرين الثاني 2003


توقيع : ابويافا
.

ابويافا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس