عرض مشاركة واحدة
قديم 27-11-03, 12:12 AM   #4
 
الصورة الرمزية ابويافا

ابويافا
سفيـر الشـرق

رقم العضوية : 47
تاريخ التسجيل : Jun 2002
عدد المشاركات : 1,031
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ ابويافا

الشعر

لوي بدوان

ترجمة : محمد شعيرات










من المؤكد أنّه يوجد فينا ما يسمّيه نوفاليس "حسّاً خاصاً للشعر"، وهو حسّ شخصي إلى حد أنّ مؤلف "أناشيد الليل" قال: "إنّ مَن لا يعرف ولا يحسُّ مباشرة بماهيّة الشعر لا يمكنه أبداً أنْ يفقه معناه". وكان الرومانطيقيون الألمان أولّ من أعاد توضيح طبيعة الشعر الحقيقية التي هي إدراك مباشرٌ وحسيّ "بعيد كل البعد عن فنّ الكلام، عن الفصاحة". وقد يبدو من المفارقات أنّ الفن الرومانطيقي الذي كان يلهمه المبدأ القائل إن "الشعر هو الواقع المطلق" – حسب عبارة نوفاليس – قد استطاب التعبير عن عذاب القلب وسبر خباياه. ولا غرو، فهذا سرّ الغنائية ذاتها وسرّ قدرتها الإشراقية لأنها تعتمد ملكة المشاركة الوجدانية الكامنة في قلب كل إنسان. فأصدق ما يكون الشاعر وأقرب ما يكون من الآخرين عندما يكون فريسة "شيطانينه" الحميمة ويبدو لنا غارقاً كلّ الغرق في مكافحته لها. ولا يتعجّب غير الأذهان الركيكة من إمكانية وجود أناس في مكان قادرين على التعرّف على أنفسهم في روح فذّة تعكس لهم في تسام صورة صراعاتهم ورغباتهم وتمرّدهم. فلا يمكن أن نفهم بودلير مثلاً ونحبّه إلاّ على هذا النحو، حتّى عندما يكشّر اشمئزازاً أو رعباً.
رغم بعض التأويلات الدهمائيّة، فإنّ كلمة لوتريامون الشهيرة: "الشعر يجب أن يكون من صنع الجميع، لا من صنع فرد واحدد". لا يمكن أن يحتجّ بها الستالينيون للدفاع عن "تأميم" الشعر بوجه من الوجوه. إنّها بالعكس تحتّم على الفرد أن يكتشف أو أن يعيد اكتشاف منابع الإلهام الشعري في نفسه ليقوّي بها إيمانه بحريّته وليستمدّ منها الطاقة الضرورية لإعطاء معنى لحياته.
فما إن يضعف الحسّ الشعري عند فرد ما حتّى يصبح أسير حياة تطوّقها ضرورات الحياة العمليّة من كلّ جانب. وليس الأدهى أن يستسلم لمثل هذه الحياة بل أن يتعلّق بها إلى حدّ يصبح العدول عنها إلى غيره أخشى ما يخشاه. فعندما يستولي عليه الخوف الطفولي من فقدان الأمن لا يتوانى عن بذل كلّ جهد حتّى يتماهى مع المثال المطَمْئِن الذي يقدّمه له المجتمع. وأمام المصائب الحقيقية التي تحلّ به أو تهدّده لا يرى من مخرج إلاّ اللجوء إلى الأوهام التي تبعده عن الواقع.
إن الشعر لا يبعدنا عن الواقع، بل يرجعنا إليه باستمرار. إنّه نداء إلى التمرّد على مظاهر الواقع الكريهة، إلى الثورة على كلّ سلطة ترضى بهذا الواقع أو تددّعي تبريره باسم "الواقعيّة" مثلاً. الشعر يحتّم علينا رؤية الأشياء كما هي ليشحذ عزيمتنا على تغييرها وتحويلها إلى ما هو أفضل. فهو إذن تمرّد وقانون: تمرّد مطلق وقانون أعلى. يرفض فوضى الأوضاع وحتميتها المزعومة، ويدعو للعمل من أجل إحلال الحريّة التي هي ضد الفوضى والتفسّخ الخُلُقي والعنف.
يتجذّر الشعر في الحياة اليومية فيتفجّر، تدفعه الطاقة المضغوطة في "كهوف الوجود"، ويصعد "واثباً تحرّكه الأشياء الخارقة التي يعجز اللسان عن تسميتها" (رامبو)، نحو تلك النقطة العليا التي جعل الفكر منها السوريالي المكان الأسطوري لتحالف جديد متحرّر في نفس الوقت من الآلهة القديمة ومن الإيديولوجيات التي تحاول أن تحلّ محلّ الديانات في سراديب الوعي الإنساني التي تسكنها، أكثر من أيّ وقت مضى، أشباح الثنويّة الرهيبة.
لقد دعا بروتون في "بيان السورياليّة" إلى الإقدام على "ممارسة الشعر"، والمقصود طبعاً ليس الاكتفاء بكتابة قصائدَ (أو قراءتها) لتحويل الشعر إلى ممارسة، ولا حتّى تعاطي "الكتابة الاوتوماتيكية"، كتابة التفكير التي، رغم كونها إحدى اكتشافات بروتون وفيليب سوبو الكبرى، سرعان ما تفقد فاعليتها ما إن تُستعمل لخدمة أهداف أدبيّة. وليس المقصود التخلّي عن كل حس نقديّ، بذريعة "أن يصبح الإنسان رائيّاً" بأقل ثمن، فنقع في الخطأ الشائع الذي يتمثّل في الخلط بين بريق الهذيان المشبوه ونور الإلهام. فالجنون، على حدّ علمنا، لم يسبغ العبقرية على أحد، وإن سقط في هوّته مبدعون كبار. المقصود هو الإصغاء إلى حديث سريرتنا، أن نكون على أهبّة لرصد كلّ ما يرتسم فيها، لا للتلذّذ بذلك الحديث أو بتلك الصورة لذّةً ساذجة وإرهاق الآخرين برجعهما المُسْئم، بل لنكتشف فيهما، بدقّة فائقة، حقيقتنا العميقة وأن نسكن إليها. وهذا لا يمكن إلاّ بجهد مستمرّ للتخلّص من التكييف الطويل الذي جعلنا صمّاً عمياً عن ذواتنا مستسلمين لقددر ضرب الحصار على أذهاننا.
في العالم الراهن الذي ينزع أكثر فأكثر إلى الانفصام، في هذا العالم "الحديث" حيث يتزايد كلّ يوم عدد البشر الذين ينتابهم الشعور المقلق بأنهم ليسوا موجودين، سوف يظل الإنسان سائراً إلى الهلاك ما لم يكتسب وعياً جديداً أشمل وأوسع بوحدة كيانه وبكلّ إمكانياته وما لم يوطّن نفسه على إظهارها. ينبغي عليه بلا شكْ إبداع وسائل تعبير جديدة لا تحوّل الوسائل التقليديّة إلى وسائل متقادمة بل تكون تكملة لها. ينبغي إبداع أخلاق جديدة تنعتق انعتاقاً كاملاً من الأخلاق القديمة التي تقوم شرعيتُها على قمع جُنَح وجرائم هي الدافع الوحيد على ارتكابها. وهذا يفترض أن يستعيد الإنسان – أي كلّ منّا – مكانه في الكون ويكفّ عن التصرف فيه وكأنه أجنبيّ، فريد من نوعه، ضائع في الفراغ اللامتناهي وخاضع في نفس الوقت إلى قوانين فيزيائيّة وبيولوجيّة لم يعد يرى منها إلاّ مظهرها القاسر. من مهامّ الشعر أن يحافظ على معنى علاقتنا بالعالم، ذلك المعنى الذي إنْ تخلّى عن حسّيته استغلق علينا استغلاقاً. فالشعر وحده، لأنّه لا يزال قادراً على استعمال الفكر التشابهي، يمكنه أن يأمل إقامة شبكة المواصلات والمبادلات الجديدة بين الإنسان والكون التي يتحتّم على الإنسانية أن تكتسبها عاجلاً وإلاّ ذهبت ضحيّة غريزتها الانتحاريّة في صحراء عاطفيّة روحيّة تحيط بها أبراج المراقبة.
هذا معنى الشعر وهذه مهمّته، في الأصل وحاليّاً. ولن يستطيع الشعر تأديّة هذه المهمّة إلاّ بالدفاع دفاعاً مستميتاً عن حريّته، أي حريّة كلّ إنسان ضد العبادات التي تهددها دون تمييز بين الأديان القديمة التي لم تفقد ضراوتها والمعتقدات العلميّة الزائفة التي تدّعي الحلول محلّها.
إن الشعر، كما يقول بنجاما بيريه، هو "نَفَس الإنسان الحقيقي". وعلينا، أكثر من أي وقت مضى، أن نرفض الاختناق.


توقيع : ابويافا
.

ابويافا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس