عرض مشاركة واحدة
قديم 27-11-03, 12:10 AM   #3
 
الصورة الرمزية ابويافا

ابويافا
سفيـر الشـرق

رقم العضوية : 47
تاريخ التسجيل : Jun 2002
عدد المشاركات : 1,031
عدد النقاط : 10

أوسمة العضو
لاتوجد أوسمة لـ ابويافا

شعر أسود وشعر أبيض

رونيه دومال

ترجمها عن الفرنسية عبدالقادر الجنابي







كما في السحر، الشعر أسود أو أبيض، حسبما يخدم الإنسان الأعلى أو شبه الإنسان.
إنها عين التدابير الفطرية التي في أُمرتها آلة الشاعر الأسود والشاعر الأبيض. يعتبر البعض هذه التدابير موهبة سرية، ختم سلطات أعلى، والأخر يعتبرها عاهة أو لعنة. غير مهم. بالأحرى إنه مهم جداً، على أننا لم نصبح بعد قادرين على فهم أصل بنياتنا الأساسية. ومن كان قد فهمها، فأنه سينجى. يحاول الشاعر الأبيض أن يفهم طبيعته كشاعر، أن يتحرر منها، أن تخدمه. الشاعر الأسود يستخدمها، فتستعبده.
لكن ما هي هذه "الموهبة" الشائعة بين جميع الشعراء؟ إنها ارتباط خاص بين مختلف الحيوات التي تشكل حياتنا، بحيث كل مظهر لواحدة من هذه الحيوات لا تعود علامة وحيدة فحسب، بل من المحتمل أن تصبح، بواسطة رنين باطني، علامة التأثُّر المركزي الذي هو، في لحظة معطاة، لوننا، صوتنا، أو ذائقتنا. التأثر المركزي هذا، المتواري بعمق فينا، لا يهتز ولا يأتلق إلاِ في لحظات نادرة. واللحظات هذه ستكون، بالنسبة للشاعر، فرصه الشعرية، وبالتالي فأن كل أفكاره ومشاعره وحركاته وكلماته ستكون، في فرصة كهذه، علامات التأثر المركزي هذا. ومتى تتحقق وحدة مغزى هذه العلامات، في صورة تبيّنها كلمات، عندئذ بالذات، نقول بأنه شاعر. وهذا ما سنسمّيه "بالموهبة الشعرية"، عدم توفّـر ما يزيد من معرفتنا في هذا الشأن.
للشاعر عن موهبته فكرة مشوشة نوعاً مه. فالشاعر الأسود يستغلها من أجل ارتياح شخصي. فهو يعتقد بأنه يستحق هذه الموهبة، وأنه يكتب قصائد بشكل طوعي. بالأحرى أنه يتبجّح، وهو مستسلم لميكانيكية المدلولات الرنّانة، بأن روحاً أعلى ملكته فاختارته وسيطاً روحياً لها. إذنْ، في كلا الحالتين، الموهبة الشعرية في خدمة الغطرسة والمخيلة الخدّاعة. سواء مخططاً أو مُلْهَماً، فأن الشاعر الأسود يكذب على نفسه ويعتقد بأنه شخص ما. غطرسة، كذب * بل مفردة ثالثة تشخصه. كسل. لا يعنى هذا أنه لا يضطلع أو لا يكدّ، أو يلوح له أنه أمر خارج إرادته. إنما كل هذا التحرك يتم من تلقاء ذاته، وهو .الشاعر الأسود. يتحاشى حتى من التدخل فيه بنفسه * نفسه هذه الفقيرة والعارية، والتي لا تريد أن تُرى ولا أن تعرف بأنها فقيرة وعارية، يسعى كل واحد منا جاهداً لإخفائها تحت أقنعته. إن "الموهبة" هي التي تقوم فيه بهذه العملية، فيستمتع بها كبصّاص، دون أن يظهر نفسه، متكئاً بها غطاءً مثل السلطعون ذي البطن الرخوة الذي يحتمي ويتزين بقوقعة سمك الأرجوان، قوقعة صنعت لإنتاج نسيج ملوكي وليس لإكساء أقزمة مخجلة. كسل أن يرى نفسه، أن يكون مرئياً؛ الخوف من أن لا يكون له موارد غير المسؤوليات التي على المرء تحملّها، عن هذا الكسل أتحدث. أُوّهْ! يا أمّ سائر عيوبي.*
الشعر الأسود مثل الحلم أو الأفيون، خصب بمزيّات باهرة. فالشاعر الأسود يلتذ بكل اللذائذ، يتزيّن بكل الزين، يمارس كل السلطات * تخيّلاً. الشاعر الأبيض يفضل الواقعي حتى في شكله البائس على الأكاذيب الثرية. ذلك أن عمله ينطوي على نضال مضطرد ضد الغطرسة، المخيلة، الكسل. وهو راض بموهبته، حتى لو يعاني منها ويعاني معاناتها، فإنه ينشد جعلها في خدمة غايات اعظم من رغباته الأنانية، أن تخدم قضية لا تزال مجهولة في هذه الموهبة.
لن أقول. الفلان هذا شاعر أبيض، وذاك شاعر أسود. سيكون هذا انحداراً من الأفكار إلى آراءٍ ومناقشات، إلى ارتكاب خطأ. ولن أقول حتى أن هذا له موهبة شعرية، وذاك ليس له. يا تُرى، أعليّ؟ غالباً ما أشك، وأحياناً أعتقد بأنني على ثقة من الأمر. لكنني لست واثقا نهائياً. ففي كل مرة السؤال جديد. وعند كل مَـبْـزغٍ للفجر، السر يَـشخُـصُ برمته. لكن لو كنت في الماضي شاعراً، لكنت بالتأكيد شاعراً أسود، وإذا عليّ أن أكون غداً شاعراً، فأني أوَدُّ أن أكون شاعراً أبيض. إن الشعر الإنساني لهو مزيج من الأبيض والأسود. على أن بعض الشعر يميل إلى الأبيض، والآخر إلى الأسود.
لا يحتاج الشعر الذي يميل إلى الأسود جهداً من أجل هذه الغاية. فهو يتبع المنحدر الطبيعي والشبه إنساني. ذلك أننا لسنا في حاجة إلى جهد حتى نتبجّح، نحلم، نكذب أو نتكاسل؛ ولا حتى لكي نحسب حسابات ونخطط، بما أن الاحتسابات والتخطيطات هي في خدمة التبجّح، الخيال والخمول. على أن الشعر الأبيض يذهب عكس المنحدر، يصعد المد مثل سمكة الأطروط، لكي تنجب في النبع الراهف. تقاوم، بالحيلة والقوّة، نزوات التيارات السريعة والدوّامات؛ ولا تترك لمعان الفقاعات العابرة أن يلهيها أو أن يجرفها المدُّ صوب الوديان الغِـرْيَـنيّة العذبة.
كيف على الشاعر الذي يريد أن يصير شاعراً أبيض، أن يشن هذا النضال؟ سأذكر كيف أحاول شنّي، في أفضل فرصي النادرة، لعل يوماً، إذا كنت شاعراً، تنبثق من شعري، مهما كان رمادياً، رغبة بالبياض.
سأميّز ثلاثة أطوار في العملية الشعرية. البذرة النيّرة، تلبيسها بالصور، والتعبير اللفظي.
كل قصيدة تولد من بذرة، معتمة في البدء، علينا تصييرها نيّرة لكي تثمر نتائج منيرة. تبقى البذرة، لدى الشاعر الأسود، معتمة، تنتج نبتة أقباء عشوائية. ولجعلها تأتلق، علينا بالصمت، لأن هذه البذرة، هي الشيء ذاته الواجب قوله، التأثر المركزي الذي يريد أن يعبر عن نفسه من خلال آلتي كلّها. الآلة نفسها معتمة، لكنها تودّ أن تعلن نفسها منيرة، وأحياناً توهم. وما إن تشرع بوادر البذرة بتحريكها، حتى تدّعي بأنها تقوم بهذا من أجل مصلحتها هي، من أجل إظهار نفسها، من أجل اللهو الفاسق لكل من عتلاتها ودواليبها. الزمي الهدوء إذن، يا آلة. اشتغلي، واسـكـتي. فليصمت اللعب الكلامي، الشعر المحفوظ عن ظهر القلب، الذكريات المجمَّعة عَـرَضـاً، فليصمت الطموح، الرغبة بالتألق * لأن النور وحده يأتلق بنفسه *، فليصمت إطراء الذات وشفقتها، فليصمت الديك الذي يظن أنه يسبب شروق الشمس. ومتى يبدد الصمتُ الظلمات، تبدأ البذرة باللمعان، مضيئةً، غير مضاءة. ذلك هو ما يجب عمله. إنه لأمر صعب، بيد أن كل جهد صغير يتلقى ومضة نور مكافأةً. إذ ذاك يبين الشيء الواجب قوله في شكله الأكثر صميمية، كيقين ابدي، * معروف، مُعترف به ومرتجى في الوقت نفسه *، نقطة نيّرة مستوعبة رحابة التوق إلى الوجود.
الطور الثاني، هو تلبيس البذرة النيّرة * التي تظهر، لكنها غير ظاهرة، كالنور غير مرئية، وكالصوت صامتة *، ارتداؤها الصورَ التي ستظهرها للعيان. وههنا علينا أيضا تفحص الصور، رفض وكبح تلك التي لا نفع لها سوى للسهولة، الكذب والغطرسة.مزدحمين بالصور الجميلة حتى نودّ اظهارها. لكن، عندما تنتظم الأشياء، فأنه يجب ترك البذرة تختار بنفسها النباتَ أو الحيوانَ الذي سترتديه ليبعث فيها الحياة.
وثالثاً يأتي دور التعبير اللفظي، حيث ليس العمل الداخلي فحسب، يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار، إنما كذلك العلم والمهارة الخارجيين. ذلك أن للبذرة تنفّساً خاصاً بها. يستولي تنفسها على آليّات التعبير من خلال بث إيقاعه فيها. إذن، يجب أن تكون هذه الآليّات مزيتة بشكل جيد ومسترخية بما في الكفاية حتى لا ترقص رقصتها، أو تسبب تفعيل أبحر غير ملائمة. ذلك أن التعبير اللفظي في الوقت الذي يخضع فيه أصوات اللغة لتنفسه، فان الشيء الواجب قوله يرغم الآليّات على استيعاب صوره. هذه العملية المزدوجة، كيف تتم؟ هذا هو السر. لا بواسطة تخطيط ذهني. يحتاج إلى زمن كثير؛ ولا بواسطة الغريزة. فالغريزة لا تبتكر أي شيء. فهذا الأمر يتم بفضل الارتباط الخاص القائم بين عناصر منظومة الشاعر الإجرائية، والذي يوحد المواد المختلفة اختلاف التأثر، والصور، والمفاهيم والأصوات في مادة حيّة واحدة. إن حياة هذا الجسم الجديد لهو إيقاع القصيدة ووتيرتها.
الشاعر الأسود يقوم خلاف هذا تقريباً، بالرغم من أن شَـبَـهَ صحيحاً لهذه العمليات يتم فيه. حتمٌ أنّ شعره يفتح عوالم عديدة، لكنها عوالم بلا شمس، تضيئها مئات الأقمار الوهمية، مأهولة بالأشباح، مدبّجة بالسراب، وأحياناً مبلّطة بالنوايا الطيبة. الشعر الأبيض يفتح باب عالم واحد بلا مزيّات أو هيبة، حقيقي، ذي شمس واحدة.
قلت ما يجب عمله ليصبح المرء شاعرا ًأبيض. ما أبعدني عن هذا الشأو. كل ما أنتجه، حتى في النثر، في الكلام والكتابة العاديين * كما في كل مظاهر حياتي اليومية * هو رمادي، أبقع، مُمرّغ، يخالط فيه النورُ الليلَ. إذنْ، عليّ بعد انقضاء الأمر استئـناف النضال. أعيد قراءة ما كتبت. أرى، فيما بين جملي، كلمات، تعابير وتشويشات لا تصلح للشيء الواجب قوله؛ صورة تود أن تكون غريبة، تلاعب جناسي بالألفاظ يعتقد نفسه مُسْتغرَباً، تنطّعُ متحذلقٍ من الأفضل أن يبقى جالساً في مكتبه على أن يلعب المزمار في رباعيي الوتري، و،عجب العجاب، غلطة، بنفس الوقت، في الذوق والأسلوب بل في التركيب. يبدو أن اللغة نفسها منسّقة لتشي بما هو دخيل عليها. قليل من الأغلاط تقنيّ محض. لكن معظمها من ارتكابي أنا. فأروح أشطب، أصلّح فرحاً فرح الذي تُستأصل من جسمه المصاب شأفةٌ غنغرينية.

* يلمح رونيه دومال هنا الى مثل فرنسي شائع مفاده: "الكسل أمُّ العيوب كلها


توقيع : ابويافا
.

ابويافا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس